رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

جرجس صفوت يكتب: كيف اختطفت إلى السماء يوم 29 أكتوبر 2021؟

جرجس صفوت
جرجس صفوت

كعادة الأمهات اللواتي يعملن في وظائفهن، كانت والدتي تستغل فترة ما بعد حضور القداس الإلهي يوم الجمعة بكنيستنا المحبوبة؛ لتُجري حملة نظافة موسعة للمنزل، التي لم أشارك بها كثيرًا نظرًا؛ لانشغالي بحضور مدارس التربية الكنسية والمعروفة كذلك باسم مدارس الأحد، ونشاطاتها.

إلا أنني لا زلت أذكر مشهد الوسائد التي تحصل على قيلولة في ضوء الشمس عبر نوافذ غرفتي، وبجوارها البطاطين وغيره في مشهد أشبه بسائحي الأقصر لحظة حصولهم على "حمام شمس" فوق "شيزلونج أزرق".

والأهم في المشهد هو الأصوات التي كانت تصدح من كافة نوافذ منزل "عم أبو جرجس كما أسماه أهل منطقتي"، وكأن المنزل هو الذي يتغنى، والمارة أسفله ينسجمون مع الأصوات التي تخرج من ذاك الكاسيت الأحمر الذي كان والدي قد أحضره من "عمر أفندي".

وكثيرًا ما شاركت المارة أثناء عودتي من "مدارس الأحد" الاستماع إلى تلك الأصوات، التي تتسلل من قلب الكاسيت إلى أسفل المنزل، وتنساب عبر سلالمه، فـتارة تداعب أذني قوة صوت المهندس جورج كيرلس وروحانيات فريقه المحبوب "دافيد"، وتارة ينسحق قلبي بصوت الدكتور مجدي لطيف وتسابيح الملائكة الصادرة عن "شباب الأنبا رويس"، ولا بأس من أن يسرق صوت الدكتور فيصل فؤاد أو المهندس ضياء صبري دمعة من عيني خلسة دون أن أحد يدري.

8 أكتوبر

في الثامن من أكتوبر لعام 2021 الجاري، كنت برفقة عدد من شباب كنيستي المحبوبة، لتهنئة أخونا المهندس والخادم بيشوي وديع على خُطبته السعيدة، فمال إليَّ أخي الخادم برسوم ميلاد، قائلًا: "هعمل معاك واجب محصلش..هتدعيلي"، فراودني الفضول: "أدعيلك بدون واجب.. بس فرحني"، فباغتني: "عازمك على حفلة لشباب الأنبا رويس هيقولوا فيها مُختارات هتعجبك قوي"، فقاطعته قائلًا:"إيدي على كتفك يا خال .. يالا دلوقتي"، ومضت الأيام وظننته قد نسى ولم أشأ أن أزعجه، حتى جمعنا اتصالًا هاتفيًا؛ للتأكيد على موعد الحفل قبيله بأيام قليلة.

عودة بالزمن 

على الرغم من انضمامي لخدمات التسبيح منذ ما يُقارب العشرين عامًا وأكثر، إلا أنني لم أحظ بحضور حفل لشباب الأنبا رويس مُسبقًا، وشباب الأنبا رويس هو فريق من أكثر  الفرق نجاحًا في الحديث عن المسيح، مرنميه لا يعتمدون على الاستعراض الفني، بل على رقة ونعومة وعذوبة الصوت، ووادعة الأداء، في هيئة كلاسيكية وقورة، لا تُخاطب الجسد مُطلقًا، بل تتسلل إلى الروح لتسحق كل ما يشوبها من خطايا وآثام.

لم يكن الحفل حفلًا، بل كان اختطافًا إلى السماء، قد تظنني أهول من الأمر، لكنني سأحدثك عن صوت الدكتور مجدي لطيف الذي لم يتغير من أن كان كلينا أصغر من الآن، ولا شك أن وداعة ورقة وعذوبة الصوت تلك لم تخرج إلا من قلب على تلك الشاكلة، وما زاد الأمر حميمية هو أنه افتتح الحفل بـ"يابني لا تنسى شريعتي"، التي أوحي إلي بأن المسيح هو من يحدثني في تلك اللحظة لأنفصل عن الزمان والمكان قائلا: "حاضر يارب".

الدكتور مجدي لطيف

 

واسمح لي أن أحدثك عن اتضاع الدكتور افرايم اميل، قائد الكورال الذي بذل مجهودًا، ما أضخمه! حتى يخرج لنا العرض في تلك الهيئة العظيمة، والذي لم نراه مُقدمًا للحفل كعادة بقية الفرق، ولا متصدرًا للمشهد، بل يرنم في خشوع ويقود في حب، دون أن يتحدث، وأعتقد أنه لولا أن تعرض للضغط لما اختتم الحفل بكلمة "الفينال"، هذا الرجل المتضع الذي أدخلنا في أجواء كيهك وألهب قلوبنا بمحبة مريم العذراء حينما خاطبها جليًا في "العليقة".

الدكتور افرايم اميل قائد كورال شباب الأنبا رويس

ودعوني أشارككم اللحظتين اللتين أضحى فيهما قلبي مضجعه-بحسب تعبير مثلث الرحمات البابا شنودة الثالث في قصيدته الشهيرة همسة حب- فجاءت الأولى حينما اعتلى الدكتور فيصل فؤاد المسرح، وفيصل فؤاد لمن لا يعرفه طبيبًا أصوله من دولة السودان الشقيق -المركز الذي استورد منه العالم القلوب الطيبة- ولحن ورنم 95% إن لم يكن أكثر من قصائد مثلث الرحمات البابا شنودة الثالث، حتى أن مواليد التسعينات أمثالي، وخاصة 1990، لم يكن لتغفو أجفانهم قبيل الاستماع إلى "يا صديقي، قلبي الخفاق، هوذا الثوب خذيه، اغلق الباب وحاجج....إلخ".

الدكتور فيصل فؤاد مُلحن قصائد مُثلث الرحمات البابا شنودة الثالث

وقف "فؤاد" يرنم ترنيمة رائعة زادها أداؤه روعة، وهي في "حزن شديد"، أذكرها بصوت جناب القمص الورع أنطونيوس ظريف، والمهندس البرت ظريف، وهم أخوالي اللذين كانا يتجمعون ووالدتي في أجواء روحانية بمنزل جدي؛ ليترنمونها في مشهد أشبه بالكنيسة الأولى الوارد ذكرها في سفر أعمال الرسل، وكنت حينئذ صغيرًا غير قادرًا على أن أفهم معنى "التيمبو والتون والهارموني وما شابه"، لكني كنت بالفطرة انخرط معهم كسمكة لم تجد غضاضة في أن تعوم داخل البحر الأحمر.

كانت اللحظة الثانية، حينما اعتلي المهندس جورج كيرلس المسرح، وقف في مشهد بهي يملئه القوة والهيبة والوقار؛ ليحببنا في الكنيسة أكثر وأكثر قائلا:"يا كنيستنا يا مجيدة"، لم يتغير كما عهدناه في شرائطه التي كانت والدتي تُحضرها إلى المنزل "أول بأول"، ودعوني أعترف فقد كنت أحب أن أقوم بدور "جورج كيرلس" أثناء أداء الديو الذي جمعه بأبنته مونيكا -ذات الصوت الذي يصعب على وصفه لا هي ولا زوجها بيتر غطاس-  والمعروف باسم “يا راعي نفسي”.

المُهندس جورج كيرلس مؤسس فريق دافيد

كمجدي لطيف، لم يتغير صوت فيصل فؤاد، ووككليهما لم يتغير جورج كيرلس، بل زاد كل منهم روعة وجمالًا، ولم يحاول أي منهم أن يقدم أي استعراضًا، بل قدموا عبادة تليق بالمعبود.

وجورج كيرلس لمن لا يعرفه مهندسًا مصريًا من إيبارشية المعادي إن لم تخونني الذاكرة، كون فريقًا حمل شعار "فريق دافيد" واحترف تلحين مزامير جد المسيح ونبي الله وقديسه داوود، كما احترف أيضًا تقديم ألحان الكنيسة القبطية بشكل موسيقي لا يُضاهيه احدًا، وجاب أرجاء العالم يُعرف الأخرين بالكنيسة القبطية وألحانها.

أخيرًا

أعلم أن المقالات لا يُحبذ أن تطال على القراء، ولكنني لست مُتحكمًا في زمام القلم، ولكي أنهي الأمر فيجب علي أن أقدم الشكر لله العامل في فريق شباب الأنبا رويس منذ أن بدؤوا وحتى الأن، كما أشكر الفريق فردًا فردًا وأخص بالشكر  الدكتور مجدي لطيف والدكتور افرايم اميل، ليس على العرض الفني فحسب، لأنه يوميًا تخرج علينا منتجات فنية كنسية وعالمية، بعضها لا يؤثر في القلب إلا سويعات إن لم يكن أقل، ولكن أشكرهم على روح المسيح التي رأيتها في الأداء والصلاة والمهابة والخشوع.

كما أشكرهم على دعوة الدكتور فيصل فؤاد والمهندس جورج كيرلس، اللذين أشكرهما أيضًا على اعتناقهما لنفس روح المسيح تلك، كما ارتجي أن أشهد حفلًا به نفس الأسماء، ويُضاف إليهم المهندس ضياء صبري الذي يعتبر قطبًا أخرًا في نفس المجال.

 

الإيبدياكون جرجس صفوت 

خادم دون استحقاق في كنيسة الله الحية

كاتب صحفي مُتخصص في الشؤون القبطية

بكالريوس الكلية الإكليريكية للعلوم اللاهوتية

 دبلوم معهدي الدراسات القبطية والرعاية والتربية الكنسية