رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

نهاية عصر اضطهاد المرأة

 

أول مرة أسمع فيها كلمة حريم كان فى السبعينيات، وكنت بصحبة أمى لاستخراج أوراق رسمية حين قالها رجل بصوت عالٍ: الحريم من هنا.

لم أفهم وقتها لماذا انفعلت أمى وردت على الرجل بشكل حاسم، ولم نتحرك من مكاننا الذى كان يشغى برجال متأففين، بينما على الجانب الآخر كانت النساء يتهامسن ويتغامزن وينظرن نحونا أنا وأمى التى نظرت إليهن وقالت بصوت وصلهن: «فعلًا حريم».

لم أفهم الكلمة وقتها، وظلت عالقة فى روحى ولم أسأل أمى عن معناها، وصمتُ كعادتى ومرت السنوات. 

المرة الثانية التى تواجهت والمصطلح كانت خلال دعوة مكتوب عليها «السيد فلان وحرمه»، ورفضت الذهاب لفعالية لا يعرف القائمون عليها اسم مَنْ توجه لها الدعوة ويعتبرونها ملحقًا للسيد فلان.

المرة الثالثة والعاشرة والألف التى تخترق الكلمة سمعى كل يوم كانت فى كل المجالات والأماكن، ومن الكل، النساء قبل الرجال، المتعلمين قبل الأميين، النخبة قبل العامة.

الكلمة مؤذية وتحمل معانى لغوية واجتماعية وثقافية سلبية جعلت أمى ترفضها، وجعلتنى أرفضها، وجعلت ابنتى ترفضها أيضًا، فالمعنى القاموسى لكلمة «حريم» يعنى ما حُرِّم فلا يُنتهَك، وأما المعنى الاجتماعى فيعنى «مَن فى حيازة الرجل من نساء»!، وأما معنى الكلمة، كما أوردتها «جودى مابرو» فى كتابها «حقائق غائبة خلف الحجاب»، فمشتقة من حرام، وتعنى المكان فى البيت الذى تقيم فيه النساء والأطفال بمعزل عن الرجال.

هذه الكلمة التى استوردتها الطبقة الوسطى فى فترة الصحوة، وما تبعها من انفتاح والسفر للعمل والعودة بثقافة بترودعوية، ومعها ما يناسبها من أنماط ثقافية ولغوية غيرت مجتمعنا تمامًا حتى اليوم، تلك الطبقة هى التى أفرزت نمط احتجاب داخل الملابس بديلًا عن التوارى فى البيت، فأضحى لكل امرأة «حرملك» خاص هو حجابها المتشابه مع غيرها، حتى إنه قد جرى تنميط لشكل الملابس ومعه تم تنميط للوعى، فقبلت كل «امرأة» منهن بسلاسة أن توصم بكلمة «حُرمة» بأريحية، وتعيد إنتاجها وتدويرها بكل اشتقاقاتها اللغوية والاجتماعية والثقافية.

من هذا التمييز اللغوى الثقافى نتسلل بخفة من مفهوم «حرم فلان» التى نستخدمها هنا فى مصر بشكل واسع، والتى لا تثير غضاضة مطلقًا بين كل الشرائح والطبقات الاجتماعية والثقافية، حتى إن النساء يقدمن أنفسهن فى المجال العام بـ«حرم أو مدام فلان» دون ذكر أسمائهن الشخصية.

فكلمة حريم، ومفردها حُرمّة، ومشتق منها كلمة «حريمى» التى تضاف لكل ما تستخدمه أو يخص النساء، تلك التعبيرات دخلت مجتمعنا المصرى عنوة مع الصحوة منتصف السبعينيات وبداية الثمانينيات، وانتشرت مع الانفتاح بشكل كبير حتى أضحت كلمات مألوفة تستخدمها حتى النساء أنفسهن، ويسهمن فى ترسيخها دون الانتباه إلى معناها التمييزى الذى يكرس للحط من قدرهن. 

فهذا التعبير هو امتدادٌ لوصف المرأة فى الثقافة الاجتماعية والدينية بأنها عورة، ولذا وجب عليها التوارى، سواء مرغمة بدفعها للمكوث فى البيت تحت ضغط الصحوة، أو بالتحجيب وطمس الهوية والتمييزات الفردية بفرض نمط واحد من الملابس يجعل جميع النساء متشابهات، ويستحضر فكرة الحرملك ليس بالمعنى المكانى، ولكن باستبدال المكان بالزى الذى يخفيها وينفيها.

«الحُرمة وجمعها حريم» لا توجد فى صعيدنا، بل لها معنى سلبى يخضع مَن يتلفظها لمحاكمة العرف الخاص بكل منطقة، والذى يحترم المرأة وتفردها كما احترمها المصرى القديم أطلق عليها الألقاب التى تؤكد مكانتها، فكانت «نِبت بِرّ» بمعنى «ست البيت»، وكانت ست أبوها وستهم، وكانت العظيمة فى البيت ست الحب، وست الجمال عظيمة البهجة، وطاهرة اليدين.

علينا جميعًا، خاصة من يظنون أن «حريم» مصطلح دال على النساء، أن نعمل بشكل واقعى على تغيير الثقافة السائدة التى تخفى النساء داخل «حرملكات» فردية مظلمة، سواء كان الحرملك نمط حجاب وملابس متشابهة أو مصطلحات تمييزية تعمل على عزل النساء داخل طابور أو عربة مترو أو يافطة محل أو مدرسة أو مكان عمل.

على النساء مغادرة عتمة الحرملك، والخروج للنهار.