رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حصار جديد لباريس!

التراجع الأسترالى، الأحادى والمفاجئ، عن صفقة الغواصات الفرنسية، وصفه جان إيف لودريان، وزير الخارجية الفرنسى، بأنه «طعنة فى الظهر»، غير أن دوافع القرار، أو الأسباب التى قادت إلى توجيه تلك الطعنة، توحى بأننا أمام مقدمات، أو بوادر، حصار جديد لباريس، يشبه، مع الفارق، ذلك الذى حدث فى مثل هذا اليوم، ١٨ سبتمبر، منذ ١٥١ سنة!.

ما حدث، باختصار، هو أن أستراليا تراجعت، أمس الأول الخميس، عن صفقة قيمتها ٩٠ مليار دولار أسترالى «٥٦ مليار يورو»، عقدتها مع فرنسا، سنة ٢٠١٦، لشراء ١٢ غواصة تقليدية تعمل بالدفع التقليدى «ديزل- كهرباء». ولم تكن مصادفة أن يتم إعلان القرار قبل مرور ٢٤ ساعة على القمة الافتراضية، التى عقدها الرئيس الأمريكى جو بايدن وبوريس جونوسون وسكوت موريسون، رئيسا وزراء بريطانيا وأستراليا، والتى تم خلالها الإعلان عن «شراكة أمنية» بين الدول الثلاث، ستحصل بموجبها أستراليا على ٨ غواصات تعمل بالطاقة النووية!.

بدأت الحرب الفرنسية الألمانية، أو الحرب الفرنسية البروسية، أو الحرب السبعينية، فى ١٩ يوليو ١٨٧٠، وفى مثل هذا اليوم، ١٨ سبتمبر، من تلك السنة، قامت قوات الاتحاد الألمانى الشمالى، تحت قيادة مملكة بروسيا، بتطويق باريس وفرضت عليها حصارًا، اضطر سكان المدينة إلى أكل القطط والكلاب وغالبية حيوانات حديقة الحيوانات الباريسية، حتى يواصلوا الصمود. لكن فى ٥ يناير التالى، بدأت الجيوش الألمانية فى قصف المدينة، ولم تتوقف إلا باستسلام فرنسا، فى ٢٨ يناير. وبعد سلسلة أحداث، تم الإعلان، من دخل غرفة المرايا التى تتوسط قصر فرساى، عن اتحاد الولايات الألمانية، الشمالية والجنوبية، فى مايو ١٨٧١، تحت حكم الملك البروسى فيلهلم الأول، وصار أوتو فون بسمارك مستشارًا للإمبراطورية الجديدة.

كان إحياء الألعاب الأوليمبية بعد توقفها الطويل، أبرز نتائج الحرب الفرنسية البروسية، إذ اعتقد الأرستقراطى الفرنسى بيير دى كوبرتين، مؤسس الألعاب الأوليمبية الحديثة ومصمم علمها وشعارها، أن سوء اللياقة البدنية للجنود الفرنسيين تسبب فى هزيمتهم. كما أن رغبة فرنسا فى استعادة كرامتها الوطنية، وما فقدته من أراضيها، فى تلك الحرب، جعلها تتحالف مع عدة دول ضد الألمان، وأعلنت الحرب قبل الجميع، سنة ١٩١٤، التى باتت معروفة بالحرب العالمية الأولى، والتى انتهت، كما لعلك تعرف، بهزيمة ألمانيا وتفتت إمبراطوريتها.

مرت السنوات، وصعدت ألمانيا ثم هبطت، مجددًا، بحرب عالمية ثانية، وضعت بعدها غالبية الدول الأوروبية «الكتلة الغربية» أمنها وسلامتها، تحت مظلة الحماية الأمريكية، عبر حلف شمال الأطلسى، «ناتو»، وفشلت كل محاولات إيجاد مظلة أوروبية بديلة، والتى كان آخرها دعوة الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون، منذ ثلاث سنوات تقريبًا، إلى إنشاء جيش أوروبى موّحد، وهى الدعوة التى سخر منها الرئيس الأمريكى السابق دونالد ترامب، ووجدها فرصة لمطالبة فرنسا، والدول الأوروبية إجمالًا، بأن تسدّد، مساهمتها فى «ناتو»، قبل أن يطالبها لاحقًا بزيادة إنفاقها العسكرى ‏إلى ٤٪ من إجمالى الناتج المحلى، أى إلى ضعف النسبة التى سبق أن ألزمت بها الولايات المتحدة أعضاء الحلف، فى سبتمبر ٢٠١٦، بتخصيصها!.

الاحتفاظ بدول أوروبا تحت المظلة الأمريكية، والإبقاء على نوع من العلاقة التراتبية مع الأوروبيين، وفرنسا تحديدًا، قد يكونا، على الأرجح، أبرز أهداف الشراكة الثلاثية، الأمريكية البريطانية الأسترالية، التى قيل إن هدفها، غير المعلن، هو احتواء التمدد الصينى فى المنطقة الممتدة بين المحيطين الهندى والهادى، فى حين يقول الواقع إن إدارة بايدن تسعى لتحقيق هذا الهدف بإقامة تحالفات إقليمية أخرى، أبرزها مشروع التحالف الرباعى، «كواد»، الذى يضم الولايات المتحدة والهند وأستراليا وكوريا الجنوبية، والذى قد تتضح ملامحه بعد اجتماع زعماء الدول الأربع، فى ٢٤ سبتمبر الجارى، على هامش أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة.

يقول الواقع، أيضًا، إن أنظار الدول الكبرى تتجه، منذ بضع سنوات، إلى المنطقة الممتدة من سواحل شرق إفريقيا إلى الغرب الأمريكى. ولأنها القوة الأوروبية الوحيدة، التى لها قواعد عسكرية دائمة فى المحيطين الهندى والهادئ، تحاول فرنسا المشاركة فى الصراع المرتقب أو «اللعبة» المتوقَّعة، وتشجع الأوروبيين على أن يكونوا متأهبين أكثر للدفاع عن مصالحهم فى تلك المنطقة. لكن فاتها أن المشاركة فى اللعبة، يتطلب أولًا الاعتراف بها كلاعب!.

.. وتبقى الإشارة إلى أن الخطوة الثلاثية الأمريكية الأسترالية البريطانية، قوبلت أيضًا بانتقادات من الصين، التى طالبت الدول الثلاث، عبر سفارتها فى واشنطن، بـ«التخلص من عقلية الحرب الباردة والتحيز الأيديولوجى»، وندّدت بتشكيل تكتلات تستهدف إلحاق الأذى بالآخرين. وإضافة إلى الأسف الفرنسى والانتقادات الصينية، قالت جاسيندا أرديرن، رئيسة وزراء نيوزيلندا، إن بلادها ستمنع الغواصات الأسترالية التى تعمل بالدفع النووى من دخول مياهها الإقليمية.