رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«حديث الخوف».. كتاب يبحث عن الهواجس المُحرِّكة لمختلف الخطابات

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب

ثمة أفكار تتآزر ويدعم بعضها الآخر تسهم في تأليف نسق عضوي يقوم بدوره في ترسيخ ودعم حضور ما تنطوي عليه الخطابات وما تعلنه بشكل واضح، من هنا جاء اهتمام الناقد الأدبي حمدي النورج في كتابه الجديد "حديث الخوف"، الصادر عن "مركز إنسان للدراسات والاستشارات"، بتحليل ما تنطوي عليه مختلف الخطابات من خوف كامن ترسّخ بشكل واعٍ أو غير واعٍ، منطلقًا لدراسة آليات التخفي والتستر التي تنتهجها الأنساق محدثة فعلها في الذائقة والثقافة. 

يشير النورج إلى أن العديد من الخطابات تنطوي على ثلاثة مجالات يصدر عنها فعل الخوف هي جموح الطبيعة أو الخوف الكوني، والعدوان البشري وهو سلوك الحرب، وضعف الإنسان وخوفه من الأمراض، ومن ثم فإن جل الخطابات مسكونة بأحد هذه الهواجس وتسلك طرقًا شتى للتعبير عنها في مراحل وسياقات تاريخية ممتدة. 

ويبين أن تحليل الخوف الكامن في الخطابات يُمكِّن من الوقوف على أنواع الخوف وحالاته وكيف يجرى استغلاله من قِبل السلطات المختلفة، فضلًا عما يبرزه من كون ظاهرة الخوف قد تصير بنية نفسية فردية ثم تتحول إلى ظاهرة اجتماعية عامة تعزز نمطًا ثقافيًا متواليًا ومتراكبًا. 

الناقد الأدبي حمدي النورج 

استراتيجيات الخداع في السرد

في خضم تحليله لحضور الخوف في مختلف الخطابات، يركز النورج على بعض السرديات ليكشف من خلالها الخوف الكامن والمحرك داخلها، انطلاقًا من قناعة بأن معاودة النظر في كثير من السرديات العربية الكبرى وعلى رأسها الأنواع القصصية في العصر الجاهلي وقصص الأساطير والقصص على ألسنة الحيوانات وغيرها يكشف عن الطبيعة المزدوجة للسرد الذي يبدو وسيلة لإيصال الحكمة، لكنه في الآن ذاته وسيلة لحجبها عبر استراتيجية الخداع. 

يقول الكاتب: في "كليلة ودمنة" تلجأ الكائنات للحيلة للوصول إلى مآربها، وكذلك الحكماء والوعاظ يصوغون الحيل من أجل القيام بدورهم التعليمي، وأعظم الحيل تأثيرًا في النفوس تتم بوضع الأمثال والحكم على ألسنة الحيوانات.

ويتابع: عن طريق اللهو يتولد العلم وتساق الحكمة هكذا يفعل الحكماء الذين يحتقرون الوسيلة نفسها لكنهم يلجأون إليها، وفي الحاجة الملحة التي يفرضها السرد بقدرته الفائقة يقع التمرير لأنساق ثقافية متعددة لعل أحد هذه الأنساق هو نسق الخوف. 

يشير النورج إلى أن العديد من السرديات تعزز الخوف، وتأثير ذلك قد يمتد إلى توليد الهروب والانهزام، كما أنها تعبير عن الانخداع الذي يقع كل من المتلقي والمخاطب أسيرًا له، فالواعظ لا يقصد أن يعزز نسق الخوف في نفوس المتلقين لكنه مخدوع بفعل الخطاب الحفري السائر، كما أن المتلقي منخدع بقبول الخطاب بدلالته المباشرة والتي تفرضها القراءة اللغوية وبخاصة حضورها على يد سلطة دينية وعظية.

واستمرارًا لتحليل خطاب الخوف في السرديات العربية، يرى النورج أنه في "ألف ليلة وليلة" يمكن ملاحظة تجلي خطاب الخوف ضمن هاجس أكبر هو حب البقاء الذي يصرعه وحش الموت، فثقافة الخوف هي التي أنتجت نص ألف ليلة وليلة حيث بنية الجذب والإلهاء الخادع المفعم بحكايات الجن والسحرة والقتل، إذ يعزز النص لأنساق تسهم في بناء مجتمعات راقية قدر إسهامها في تعزيز ثقافة الخوف الذي يأتي التنبيه من خطرها في نهاية الحكايات. 

ويشير الكاتب إلى "ليالي ألف ليلة" التي كتبها نجيب محفوظ في معرض حديثه عن الخوف الكامن في الخطابات السردية، فيقول إنها رواية إنسانية في تفردها، وعالمية في الاحتفاء بحرية الإنسان وحق الحياة ودفع الخوف الذي يقضي على الآمال ويهزم إبداع الشخوص، وفيها يتجلى وحش الخوف وتحوله لسلوك مرضي مخيف. 

 الخوف في المجتمعات الحديثة

تتعدد مظاهر الخوف في زمننا الراهن الذي اكتسى بأوجه مغايرة لتلك التي حضرت في أوقات ماضية، حتى بات وحشًا يهدد حياة جميع الناس، فإن كان الخوف من الموت وحب الخلود هو ما أوجد الآثار والعجائب في النحت والتصاوير والشعر، فلا يزال هذا الخوف محركًا نحو تعزيز خطابات مثل محاربة العنف والإرهاب وتفعيل التطور التكنولوجي بما يضمن حياة أفضل وأطول للبشرية، وتفعيل أشكال شتى من المراقبة لمواجهة مخاطر مختلفة محتملة.

في هذا الصدد، يلفت النورج إلى أن جميع المجتمعات تتحرك بقوة نحو نبوءة أورويل وهي المراقبة التامة والشاملة من حيث تطوير تقنيات جديدة يتم فيها الاعتماد على ضبط الجسد وتطويعه بحيث تبدو جميع أفعاله وسلوكياته موجهة بفعل الرقيب، كما أن عالم الروبوت المنتظر من جهة أخرى سيصبح مفتونًا بسلوك القوة الظاهرة المدمرة مثلما نشأ مفتونًا بسلوك القوى الخفية التي منها انتقلت الأساطير والعجائب والغرائب.