رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الانسحاب الأمريكى من أفغانستان.. الصين وروسيا هدفًا

أى عاقل لديه ذهن متفتق عالم ببواطن العلاقات الدولية والسياسات الخارجية للدول لا يمكن أن يصدق أن الولايات المتحدة الأمريكية استيقظت فجأة فقررت الانسحاب من أفغانستان.. بل هي استراتيجيات دول يتم الإعداد لها سنوات.. فمن غير المتصور أن أمريكا عند اتخاذها قرار الانسحاب من أفغانستان لم تكن تعلم أن حركة طالبان لديها القدرة العسكرية على إعادة السيطرة على معظم أفغانستان مرة أخرى، ولكن لسياسات ومصالح الدول حسابات أخرى.. الولايات المتحدة تريد إعادة أفغانستان إلى حكم طالبان مرة أخرى كجزء من استراتيجيتها الجديدة لمواجهة الصين وروسيا.. فهى تعلم تمامًا أن طالبان كحركة متشددة دينيا تعتبر كلًا من الصين وروسيا دولًا كافرة وهو ما حدث قبل ذلك أثناء الغزو الروسى لأفغانستان من ١٩٧٩ حتى ١٩٨٩، فقد دعمت المجاهدين والمتشددين والإرهابيين وجمعتهم من أنحاء العالم كافة لمواجهة العدو الملحد الكافر حينها، وهو الاتحاد السوفيتى، ونجحت فى ذلك.
واشنطن تريد أن تعيد كتابة التاريخ مرة أخرى.. حيث لم يغب عن أعين الجميع أن طالبان حركة عقدية، تؤمن بامتلاك الحقيقة المطلقة، ولا تثق بالآخر، وهذا ما قد يجعلها مفيدة فى أعين واضعى استراتيجية القرن الأمريكى مرة أخرى، فبعد أن نجحت فى التخطيط لانهيار الاتحاد السوفيتى، فوجئت بعد ٣٠ عامًا بصحيان الدب الروسى، الوريث الشرعى للاتحاد السوفيتى،  من نومه والعودة بقوة مرة أخرى، لكنه لم يفق بمفرده بل صعد معه التنين الصينى المهدد الأكبر لسيطرة أمريكا على العالم، فكل المؤشرات تؤكد أنه خلال ١٠ أو ٢٠ سنة ستحتل الصين مكان أمريكا فى قيادة العالم، سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا.
الانسحاب العسكرى الأمريكى، ثم ترفيع طالبان بطريق غير مباشر، مع غض البصر عما تجرى به الأقدار هناك، والتذرع بالاهتمام بأولويات أمريكا الداخلية، فى حين تبقى الإرادة الأمريكية الحقيقية موصولة بتوريط روسيا مع طالبان عبر إحياء ضغائن الماضى، والوقيعة بين موسكو وبكين على أرض أفغانستان، انطلاقًا من تعزيز مخاوف الروس من السيطرة الصينية البادية على المشهد الأفغانى.
ووضعت الولايات المتحدة روسيا والصين عدوين استراتيجيين وحيدين للولايات المتحدة، ففى تقرير نشرته صحيفة «وول ستريت جورنال»، منتصف أبريل الماضى، بشأن الانسحاب الأمريكى فقالت: «الرئيس جو بايدن اتخذ قرار الانسحاب، ضمن عملية تسعى لإعادة ترتيب أولويات أهداف السياسة الخارجية الأمريكية»، وأن سيد البيت الأبيض يعيد توجيه تمويل الحرب نحو الاهتمامات المحلية... ومن بين الأهداف الأخرى  التركيز على التحديات التى تأتى من روسيا والصين.
ولعل مجمع الاستخبارات الأمريكى لا تخفى عليه خطوات تعميق العلاقات التى تجرى بسرعة شديدة بين روسيا والصين، بخاصة فى ظل المحاولات الأمريكية الحثيثة للتدخل فى أوكرانيا أخيرًا مرة جديدة. وظل انقسام الآراء بالمجتمع الأمريكى ما بين مؤيد ومعارض لقرار سحب القوات الأمريكية من أفغانستان، حيث قدم مؤيدو القرار ثلاث حجج ستتمكن بموجبها الإدارة الأمريكية من تعزيز تنافسها مع بكين. إذ سيتيح الانسحاب الفرصة لإعادة نشر المعدات العسكرية الأمريكية الموجودة بأفغانستان فى منطقة المحيط الهندى الهادئ، كما أنه من المتوقع أن يتيح الفرصة للدبلوماسيين والبيروقراطيين الأمريكيين لتكريس المزيد من الاهتمام والجهد لبكين بعيدًا عن «المستنقع الأفغانى»، فضلًا عن أن الانسحاب سيمكن الدولة من تمويل المبادرات التى تُعزز مكانة واشنطن لتمكنها من التنافس مع الصين عبر توفير الأموال التى كانت ستستمر الدولة فى إنفاقها لو لم تنسحب من أفغانستان، ومن ثم تخصيص مليارات من الدولارات للمنافسة مع بكين.
ولهذا أحست الصين بالخطر، فرغم ترحيب الصين بالانسحاب الأمريكى من أفغانستان من حيث المبدأ، إلا أن الصين انتقدت ما سمته «الانسحاب المفاجئ»، وفق تعبير المتحدثة باسم وزارة الخارجية الصينية، هوا تشونينغ. وتعد الصين أقرب الحلفاء لباكستان التى لها علاقة قوية مع حركة طالبان. وتقوم العلاقة القوية بين بكين وإسلام أباد على خلفية الصراع الهندى الباكستانى والهندى الصيني. وتتخوف بكين من التأثير السلبى لعدم الاستقرار فى آسيا الوسطى بعد الانسحاب الأمريكى، ومن أن يؤثر هذا الانسحاب على المشروع الاستراتيجى الصينى «الحزام والطريق» الذى أطلقه الرئيس شى جين بينغ فى 2013، ويمر فى دول كثيرة أبرزها دول أسيا الوسطى، التى تقع أفغانستان فى القلب منها.
إذن المصالح متشابكة والحسابات معقدة وكل طرف يحاول مواجهة الآخر والانقضاض عليه وتعطيله بشتى السبل، أمريكا تحاول تطويع انسحابها لمواجهة الصين وروسيا والأخيرتان تحاولان قلب الطاولة على الأمريكان وجعل الانسحاب الأمريكى مصلحة لهما عن طريق ملء الفراغ وتحسين العلاقات مع طالبان، وهو ماحدث باستضافة موسكو وبكين وفودًا من الحركة خلال الفترة الماضية.. من سيستغل الظروف لصالحه ويملأ فراغ الانسحاب الأمريكى والناتو.. هذا ما ستوضحه المرحلة المقبلة.. مرحلة ما بعد الانسحاب الأمريكى من افغانستان.