رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«نشوة التريند» والانتصارات الافتراضية فى «هاشتاجات» المعارك الوهمية

منذ سنوات غير قريبة، اعتدت أن أبدأ يومى بتصفح موقعى «تويتر» و«فيسبوك» قبل أى عمل آخر، على أننى فى البداية كنت أرى أن متابعة «تويتر»، على وجه التحديد، جزء من طبيعة عملى الصحفى، باعتباره واحدًا من أهم مصادر الأخبار السياسية، العربية والدولية، خصوصًا مع وجود حسابات رسمية لعدد كبير من الرؤساء والسياسيين المؤثرين فى الساحتين العربية والدولية، إضافة إلى تفضيلاتى من صفحات لكتاب وأدباء وفنانين وصحف ومجلات مهمة.

هذه المتابعة كانت تستلزم منى بعضًا من ساعات الصباح لقراءة ومتابعة المهم من «تغريدات» وكتابات تؤثر فى مسار العمل الصحفى اليومى، وكثيرًا ما كنت لا أندم على تلك الساعات التى يتم إنفاقها فى متابعة الموقعين، إلا أننى لم أتوقع أبدًا أن يأتى يوم ويصبح مجرد فتح أى من الموقعين إهدارًا للوقت، والطاقة، أو مادة للتسلية والسخرية لا أكثر ولا أقل.

كثير من «الهاشتاجات» العبثية والمسيئة، بل المنحطة.. كثير من العبث والفراغ وقلة الأدب.. كثير من الشائعات والسخافات والحملات المريبة، حتى إن كبار الراحلين من الأدباء والكتاب لم يسلموا من هذه التشوهات التى أصابت الموقعين، فتجد صفحات باسم نجيب محفوظ تبث عبارات لم يقلها أبدًا، وربما لم ترد له على خاطر، تجد قصائد منسوبة إلى العظيم صلاح جاهين، وغيرهما من كبار الكتاب والفنانين، على أن الملاحظة الأهم أن تلك الانتحالات والشائعات والحملات و«قلة الأدب» لا تجدها فى غير الصفحات المكتوبة باللغة العربية، وبأيد تقول إنها عربية، وهى بالتأكيد موجهة لكل من يسوقه حظه العاثر إلى أى من الموقعين ويمكنه القراءة باللغة العربية. وكأن هناك تعمدًا عربيًا لتشويه العرب، ووصمهم بكل نقيصة، فإذا قال أحدهم «إن العرب إذا دخلوا قرية أفسدوها» تجد ما يدعمه من مواقف وحكايات ووثائق الكثير والكثير.

ويبدو لى أن هذا الأمر مرتبط بظاهرة «اللجان الإلكترونية» التى بدأت فى الظهور بقوة منذ ما قبل ثورة يناير بسنوات قليلة، وأغلب الظن أنها اختراع غربى يستهدف العرب منذ بدايته، فلك أن تلاحظ مثلًا أن أكثر هذه اللجان نشاطًا هو لجان الجماعات الإرهابية، وفى مقدمتها بالطبع «تنظيم الإخوان» وغيره من التنظيمات المعروفة، التى تتخذ من «الدين الإسلامى» ستارًا لتمرير أفكارها ومعتقداتها وآليات عملها، و«الإسلام» براء منها جميعًا.

ولك أن تلاحظ أن تلك الجماعات تستثمر فى هذا المجال الكثير من الأموال التى تصلها دون مجهود أو عمل، بل دون جهات مرسلة واضحة ومعلومة، وتعتمد فى انتشارها على عمليات «غسيل المخ»، وسيادة «ثقافة القطيع»، فهى فى الأصل لا تبيع غير الوهم والخداع، حتى معاركها وانتصاراتها وهمية، لا أصل لها، ولا صدى على أرض الواقع، مجرد شحنات يتم بثها هنا وهناك بهدف الإثارة والبلبلة، وبث الخوف والذعر فى النفوس، وتصدير الوهم إلى الداخل والخارج.

وحتى لا نبعد كثيرًا، سوف أذكر لك واقعة حدثت صباح أمس «السبت»، فقد استيقظت على تغريدة لرجل الأعمال العائد أشرف السعد، يقول فيها: «هو فيه ثورة بجد يا جدعان بعد يومين ولا دى إشاعة زى كل سنة؟ أنا بقيت زى الأطرش فى الزفة، ده أنا كنت فى لندن بعرف أخبار الثورات أولًا بأول، ومن يوم ما رجعت مصر محدش معبرنى ومحدش بيقولى أى أخبار، وبقيت عايش لوحدى زى عبدالوهاب، ونسيتوا إنى أنا اللى اخترعت المنفاخ، وكنت فاكركم أهلى وعشيرتى».

الحقيقة التى لم يكتشفها أشرف السعد منذ عودته إلى مصر حتى الآن، أنه لم تكن هناك ثورات من قبل، ولا حتى مظاهرات يمكن وضعها فى عين الاعتبار، لم يكن هناك سوى «هاشتاجات الدعوات للخروج»، و«تريندات التغيير»، و«سخافات قلة الأدب ضد بعض الفنانين والكتاب والصحفيين»، لم يكن هناك سوى «معارك وهمية»، و«دعوات وهمية»، و«انتصارات وهمية».. أما هزيمتهم الساحقة فهى الوحيدة الحقيقية.

الحقيقة أن هذه الثورات التى كان يسمع بها وهو فى العاصمة البريطانية، ليست سوى «ثورات من الهاشتاجات»، أو «الثورات الافتراضية» الوهمية، التى لا أصل لها ولا صدى، لا يعرف بها، أو يدعو لها ويراها سوى لجان الجماعة الإرهابية، ومن يلفون لفها، لا أكثر ولا أقل. 

وحدهم يصنعون «الهاشتاجات» ويستهلكونها، يتداولونها، ويعيدون إنتاجها واستهلاكها.. ووحدهم يهللون «للتريندات» التى لا يشاركهم فيها غيرهم، فتأخذهم نشوة اعتبار «التريند» هو قمة الانتصارات، وأم المعارك، ووحدهم لا يعرفون أنه ليس أكثر من انتصار افتراضى، وهمى، وعبثى لا أصل له، ولن يكون.

الحقيقة أنه لا مكان لهم بيننا، لا افتراضيًا ولا على أرض الواقع، وأن هزيمتهم هى الوحيدة الحقيقية، والنهائية.