رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عبد العزيز المقالح يروي المشاهد الأخيرة في حياة الشاعر أمل دنقل

أمل دنقل
أمل دنقل

لم تكن وفاة الشاعر أمل دنقل في مثل هذا اليوم من العام 1983 مفاجأة لأحد من الكتاب والمثقفين في العالم العربي٬ فقد كان كثير منهم يعيشون على أعصابهم قلقا وانتظارا لإعلان نبأ الوفاة. فقبل وفاة أمل دنقل بثلاثة أعوام والشاعر الكبير كان يتعذب ويتساقط قطرة فقطرة ونبضا نبضا٬ وكان واضحا بعد اكتشاف إصابته بمرض السرطان في جسده النحيل أنه لن يبرح حتى يسلمه للموت٬ وأن أقصى ما يقدمه الطب للإنسان العاجز لا يزيد عن تأخير ساعة الوفاة أو إطالة أيام العذاب.

وفي هذا الصدد يقول الشاعر اليمني عبد العزيز المقالح، في تقديمه للأعمال الشعرية الكاملة للشاعر أمل دنقل٬ والصادرة عن دار العودة في بيروت بتاريخ 1 أبريل 1985: لم تكن وفاة الشاعر الكبير مفاجأة إلا أن إعلانها المتأخر قد هز المشاعر وكان بمثابة صدمة عنيفة لأصدقاء الشاعر ومحبيه أفقدهم القدرة على الكتابة الشعرية أو النثرية على حد سواء٬ وبما أنني أحد أصدقاء أمل دنقل وأحد الذين رافقوه وقرأوه عن قرب٬ فقد أفقدني النبأ المتوقع القدرة على التفكير والقدرة على الإمساك بخيوط التعبير عن ألم الوداع٬ وأكتفيت باسترجاع بعض الأحاديث والتقاط بعض صور الذكريات الغارقة في قاع الذاكرة.

ومن بين الذكريات التي يسترجعها عبد العزيز المقالح تلك الخاصة بحديثه الأخير من الشاعر الكبير أمل دنقل٬ وعنها يقول المقالح: حدثني صديق كان في القاهرة منذ أسابيع فقال: ذهبت إلى المستشفى الذي يقيم فيه أمل دنقل٬ وسألت إحدى الممرضات عنه فأشارت بيدها نحو غرفة معينة٬ فتحت الباب ونظرت داخل الغرفة باحثا عن أمل الذي ودعته منذ خمس سنوات٬ لم أجده هناك٬ رأيت إنسانا لا يمكن أن يكون الشخص الذي أعرفه٬ عدت أدراجي بعد أن أغلقت الباب ورائي٬ وذهبت مرة أخرى إلى الممرضة لأسألها عن غرفة أمل دنقل الشاعر٬ فأشارت مرة أخرى إلى نفس الغرفة٬ وعدت لأفتح الباب وأفتش في جوانب الغرفة عن أمل فلم أجده وهممت بالتراجع مرة ثانية إلا أن أمل عرفني فنادي باسمي٬ صوته هو الذي لم يتغير٬ أما جسمه فقد صار شيئا آخر٬ أي عذاب رهيب يفوق الخيال هذا الذي تعرض له الشاعر أمل دنقل؟ هكذا سألت نفسي وأنا أتوجه نحو السرير الذي يرقد عليه٬ وكنت قد قررت أن أتمالك وأن لا يبدو على وجهي أي تأثر أو انفعال يثير في نفسه "الألم"٬ إلا أنني ما كدت أراه بتلك الحال حتى انفجرت باكيا٬ لكنه قابل بكائي بابتسامة عريضة ثم سألني: لماذا تبكي؟ أتخاف على من الموت إنها منيتي المفصلة٬ إنه الأمل الأخير٬ الطبيب الذي يتفوق دائما على أمهر الأطباء. وواصل ابتسامته المنكسرة٬ ولاحظت أن قدرا كبيرا من الشجاعة ظل يشع من ملامح وجهه الغائر.

ويواصل عبد العزيز المقالح سرد الأيام الأخيرة للشاعر أمل دنقل في الغرفة "8" من داخل المستشفى حيث قضي نحبه: ومضيت مع الصديق نتجاذب أطراف الحديث ونتذكر أمل دنقل القديم٬ سنوات العذاب الطويل٬ أيام التسكع والجوع٬ خلال الفترة التي اشتدت فيها وطأة القهر والظلم والفقر والمطاردة على أمل دنقل قبل أن تشتد عليه وطأة المرض القاتل. قال لي الصديق الذي لن أذكر اسمه بسبب الفقرة التالية من الحديث: لقد كنت في القاهرة منذ سبع سنوات٬ رأيت خلالها أمل دنقل أكثر من مرة وذات يوم رأيته كالعادة يذرع الطرقات بحثا عن صديق يدفع له ثمن الغداء٬ وعندما رآني توجه نحوي قائلا: نصف جنيه٬ نصف جنيه فقط ثمن الغداء.

وعندما كنت معه في المستشفي منذ أسابيع مددت يدي إلي جيبي وأخرجت خمسمائة جنيه وقدمتها إليه في خجل٬ ضحك أمل دنقل من تصرفي غير المهذب٬ وقال لي: أطو أوراقك يا أخي فلم أعد بحاجة إليها٬ كنت منذ سنوات كما تذكر بحاجة إلى ورقة واحدة منها٬ وكانت ورقة واحدة تكفي لتسعدني يوما أو أكثر أما الآن فلا قيمة لها عندي٬ إن ما في العالم من هذه الأوراق لا يهز شعرة في جفني٬ ولا يخفف ألم دقيقة واحدة من عذابي الطويل المرير.