رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

إيهاب عمر يكتب: «هجمة مرتدة».. الواقع الذى غلب الدراما

إيهاب عمر
إيهاب عمر

 

غابت دراما المخابرات لسنوات عن الشاشة الصغيرة، ولكن العودة كانت دسمة مع مسلسل هجمة مرتدة، واللوجو الشيق «من ملفات المخابرات المصرية»، فى إشارة إلى أن الأحداث حقيقية، حيث تفاجأ المشاهد بعمل وثائقى فى قالب درامى، يسُد فجوات الرواية التى عاصرناها منذ عام ٢٠١١ لليوم، ويقدم إجابات حاسمة عن أسئلة شديدة المرارة مر بها الوطن عبر أصعب سنواته منذ نكسة يونيو ١٩٦٧.

لم يصطنع المسلسل الحكمة بأثر رجعى، بل قدم الحقيقة بشكل واضح وخالص، الإخفاقات والأزمات قبل الإنجازات، حيث بدا واضحًا ما ذهب إليه المئات من الأصوات الوطنية، بأن مشروع التوريث ولجنة السياسات داخل الحزب الوطنى الديمقراطى المنحل قد كبلا مصر وجعلاها فريسة سهلة أمام فيالق المؤامرة لكى تنال من أقدم دولة فى التاريخ على وقع ما يسمى الربيع العربى.

إن خيوط تلك المؤامرة لم تبدأ بالعام ٢٠٠٧، كما تبدأ أحداث «هجمة مرتدة»، ومسلسل «القاهرة: كابول» الذى يتشابك مع هجمة مرتدة فى بعض نقاط التماس، ولكن فى السنوات الأخيرة من القرن العشرين، بدأت النخبة الأمريكية الحاكمة فى صياغة مشروع القرن الأمريكى الجديد، وهو عبارة عن ضمان قيادة الولايات المتحدة الأمريكية للنظام العالمى، سواء شبكات المصالح الغربية التى تدير هذا النظام أو دوائر العولمة النيوليبرالية والرأسمالية الدولية.

وخلصت نخبة واشنطن إلى أنه يجب الوصول إلى عالم بلا جيوش أو شرطة قوية، حيث يجب كسر المؤسسات العسكرية العريقة حول العالم، وأن تحول العالم إلى قرية صغيرة يعنى أن تفقد الدول سيادتها لصالح النظام العالمى، حيث يصبح رئيسا الجمهورية والحكومة مجرد «عمدة قرية» لدى النظام العالمى، فى فيدرالية دولية، بينما الجيوش هى الشركات العسكرية الخاصة التى تتحرك بأوامر من الغرب بوجه عام والبنتاجون على وجه التحديد.

تركيبة مصر كانت الأصعب، لذا تم تفعيل مبدأ «فرّق تسُد» الذى صاغه البريطانيون فى السياسة الدولية، إذ تقرر توظيف مبادئ حقوق الإنسان ومؤسسات المجتمع المدنى والديمقراطية والتعددية الحزبية والانتخابات البرلمانية والرئاسية لكى تصبح أسلحة بيد المؤامرة، ودعم طموحات الجناح الصاعد داخل الحزب الوطنى والذى أصبح لاحقًا هو لجنة السياسات، وفى نفس الوقت دعم المعارضة الليبرالية وتنظيم الإخوان.

وكان الغرض هو صناعة لعبة قط وفأر، وقنابل دخان بوجه المؤسسة العسكرية، ما بين تنظيم داخل الحزب الوطنى، قرر تسليم الحكومة عمليًا إلى رجال الأعمال، وإتمام مراسم زواج المال بالسلطة، فيما يعرف بالبلوتوقراطية وتأسيس أوليجاركية أو حكم أقلية داخل الحزب الوطنى عبر لجنة السياسات، كان هدفها الشكلى هو تمهيد الطريق لمبارك الأب للسلطة، ولكن عمليًا كان الهدف هو استبعاد المؤسسة العسكرية من ترتيبات خلافة مبارك الأب، وتنفيذ الأجندة الدولية باستبعاد الجيوش من الأمن القومى تمهيدًا لتفكيكها.

وللمفارقة فإن المجموعة التى وضعت مشروع القرن الأمريكى وإن كانت تقصد وضع مخطط عام للدولة الأمريكية، إلا أنها صعدت بكامل تشكيلها إلى البيت الأبيض بعد ذلك بعام تقريبًا، حينما انتخب الأمريكان جورج بوش الابن وجوقة المحافظين الجدد، ومع توليه الرئاسة فى يناير ٢٠٠١، كانت جمعية جيل المستقبل لمؤسسها ورئيسها جمال مبارك قد تلقت صافرة البداية للتحول إلى لجنة السياسات، وكذا بدأ أيمن نور وسعدالدين إبراهيم وتنظيم الإخوان مشروعهم المشترك، كل فى مساره الخاص، على أن تلتقى المسارات فى انتخابات الرئاسة ٢٠٠٥.

وبينما جهاز المخابرات العامة المصرية، كما يبدو فى «هجمة مرتدة»، وأجهزة القوات المسلحة، كما سوف يظهر لنا يومًا ما، أتمنى أن يكون قريبًا- تكشف المؤامرة الغربية على الدولة المصرية، وأن غزو أمريكا العراق يعنى بالتبعية أن استهداف مصر هو الهدف التالى، وبينما كان رجال الظل فى المخابرات والجيش يقرأون جيدًا مشهد حل الجيش العراقى، وتسليم العراق للجماعات الإسلامية الإرهابية، وصناعة اقتتال إسلامى علمانى، ثم سنى وشيعى، ومسلم مسيحى، وعربى كردى، وحتى كردى تركمانى- كان الرئيس المزمن الهرم قد وقف متفرجًا على الأسرة الحاكمة وهى تخنق الإرادة السياسية للتصدى للمؤامرة، ليس رغبة فى السقوط، بل ظنًا منهم أنهم قادرون على التصدى لها بطرقهم، رغم حقيقة أن «شلة التوريث» أو لجنة السياسات ومبارك الابن إضافة إلى طبقة تزاوج المال بالسلطة والأوليجاركية البلوتوقراطية النيوليبرالية كانوا مجرد وافدين جددًا على الساحة السياسية عكس رجال الظل فى المخابرات والجيش.

ويلاحظ أنه مع مجىء إدارة بوش الابن، بدأت لعبة توظيف ملفات حقوق الإنسان والمجتمع المدنى والديمقراطية والانتخابات فى استنزاف مصر، وبحلول عام ٢٠٠٥ أتت لعبة تأسيس حركة كفاية، وبدأ حراك ما قبل الانتخابات البرلمانية والرئاسية، ولكن النظام لم يكن قد تآكل من الداخل بالشكل الكافى للسقوط فى ٢٠٠٥، وظلت اللعبة مستمرة، وجرت بروفة اقتحام تنظيم حماس للحدود مع سيناء عبر قطاع غزة فى يناير ٢٠٠٨.

ولطالما كانت التقارير من أجهزة الدولة تصعد إلى مكتب الرئاسة، حول الهول القادم، والجولة المقبلة، ترفع المعلومات والاقتراحات والحلول، من أجل إنقاذ الدولة المصرية وليس إنقاذًا لشخص بعينه، ولكن لجنة السياسات كانت ترفض أن تحصل المخابرات العامة والجيش على المساحة اللازمة لحماية الوطن، إذ عمدوا على استبعادهم من المشهد، وكانت الحجة أن تلك الملفات الداخلية من اختصاص جهاز أمن الدولة ووزارة الداخلية.

للمفارقة، سعت أمريكا بنهاية القرن العشرين إلى تعميم مخطط إقليمى، بأنه حان الوقت لوزارات الأمن الداخلى أن تقوم بمكافحة الإرهاب بعيدًا عن الجيوش، وأنه يجب استبعاد الجيوش من هذه المعادلة، وأن تعود إلى ثكناتها وإلى حراسة الحدود، بنص التعبير الذى استخدمه محمد البرادعى لاحقًا، وللمفارقة فإنه أكثر من تحمس لهذه الرؤية حينما عرضت على وزراء الداخلية العرب كان حبيب العادلى، فاكتملت المنظومة فى مصر، ما بين شاب حديث العهد بالسياسة يرى أن المخابرات والجيش يقفان أمام طموحه الرئاسى، ولجنة تزاوج المال بالسلطة ترى أن العسكريين والمخابرات يقفان أمام طموحها الوزارى، ووزير داخلية يرى أن مكانه أكبر من مجرد وزير وحان الوقت لعودة رجالات الشرطة إلى مقاعد رئاسة الوزراء وربما ما هو أعلى من ذلك.

بحلول عام ٢٠١٠، كان الجيش والمخابرات، كل على حدة، قد أدرك أن لحظة الانفجار مقبلة، وأنها حتمية وبلا رجعة، وأنه يجب وضع المخططات لاستيعاب هذا الانفجار وتلك الثغرة والنكسة، حتى لا تحقق كل أهدافها، وأن هناك خسائر منطقية حال حدوث هذا الانفجار، وفى صيف ٢٠١٠ على وجه التحديد كان هناك تصور لمرحلة ما بعد ٢٥ يناير ٢٠١١، ورغم ذلك ظلت الأجهزة الوطنية تعمل حتى اللحظة الأخيرة بجانب القائد الشرعى للبلاد من أجل إنقاذ مصر من مصير العراق ٢٠٠٣ قبل أن نرى بأنفسنا العراق يذهب ثانية إلى همجية داعش، وتذهب سوريا إلى حرب عالمية مصغرة على أرضها وكذا ليبيا واليمن.

لعل قوة المخابرات العامة والجيش قبيل ٢٥ يناير ٢٠١١، والسيناريوهات الجاهزة، كانت طوق النجاة لمصر، فى عدم انفراط عقد الدولة المصرية، وأن تستوعب الصدمة سريعًا، وأن تكون الخسائر معقولة لكروت محروقة، وأن تستطيع تحقيق هجمة مرتدة فى ٣٠ يونيو ٢٠١٣، وأن تكون الحلول والاقتراحات جاهزة على مكتب الرئيس الوطنى الجديد، القادم من المؤسسة الأم دون فواتير سابقة، أو أوهام أوليجارية بلوتوقراطية، أو أجندات أمريكية، أو أوامر بالوفاق مع الإخوان والحقوقيين، أو صراع مراكز قوى بين الجيش والداخلية- أن يتمكن هذا القائد المشير عبدالفتاح السيسى من ترميم الدولة المصرية وتأسيس الجمهورية الجديدة فى أقل من ثمانى سنوات.