رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مهدي مبارك يكتب: الله فى بالى.. سر المسجد الذى نجا من زلزال «تسونامى»

مهدي مبارك
مهدي مبارك

يضحكون كثيرًا- بسبب ودون سبب- من باب أن تبسُّمك فى وجه أخيك صدقة، ولا يعرفون أن المسلمة يمكن ألَّا تكون محجبة، تمشى فى بلادهم فلا يأتيك صوت الأذان من مكبرات الصوت، ولا من شاشات التليفزيون، لكن الحياة تتوقف- تلقائيًا- ٥ مرات يوميًا.. والصلاة هى المفتاح الأهم لإندونيسيا. دولة مسلمة على الفطرة، لا أحد يذكرك فيها بأنك يجب أن تصلى الآن، شىء داخلى ينبّه الجميع، المدرس يقطع درسه، والعامل يترك البوفيه، وقاطع التذاكر يترك شباك السينما، والسائق يركن السيارة ويدعو الركاب للصلاة فى أقرب مسجد، لا يمكن أن يعاجله أحدهم: «عطلتنا»، أو «إحنا مستعجلين»، فلا شىء يلهى الرجل عن عبادة الله.

تروى نورهان علام، صاحبة كتاب «فى جزر المهراجا» (تحت الطبع)، أنها دخلت المسجد لتصلى، وحين انتهت من الركعات الأربع، التفتت يسارًا لتقول لمن تجاورها: حرمًا، فلم ترد واندهشت من السلام والكلمة. 

بدأت تشرح لها أن «حرمًا» هى أمنية لها بأن تصلى فى الحرم قريبًا، لكن فى إندونيسيا لا يفعلون شيئًا من باب العبادة، إن لم يكن النبى سبقهم فى فعله، رغم أنهم يفعلون أشياءً كثيرة لم تكن فى أيام النبى، ولا يعتبرونها حرامًا أو خادشة للدين أو فعلًا فاضحًا، كما يعتبرها المسلمون فى دول أخرى، فـ«الإسكوتر» وسيلة المواصلات الأساسية للنساء، لا تتعجب حين تمشى فى الشارع لتجد إسدالًا طويلًا وخمارًا يطيران فى الهواء بأقصى سرعة، هى- فقط- سيدة متأخرة على موعدها.

«الإسكوتر» عفريت الأسفلت فى كل جزر إندونيسيا، لكن الإسلام لم يخترقها جميعًا، ففى بالى «أشهر جزر شهر العسل» يقل عدد المسلمين، وتسود الشريعة الهندوسية، ومن حق الزائر أن يفعل ما يحلو له، لن يستوقفه أحد حرَّاس الشريعة ليقول له حكم الإسلام فيما يفعل، وعلى حدودها جزر أخرى تطبق الدين على مزاجها، فإندونيسيا بلا قانون واحد، وما تفعله فى بالى فى حراسة الشرطة، تجلدك الشرطة حين تفعله فى «سومطرة». 

الدستور للجميع.. ولكن لكل جزيرة قانونها.

بعض الجزر يفرض على النساء الحجاب والملابس المحتشمة والخمار، ويقيم كرنفالات واحتفالات أسطورية فى المولد النبوى، تنافس عيدى الفطر والأضحى، ويستحيل معايشتها فى أى بلد آخر: قراءة القرآن وإلقاء الخطب والدروس الدينية، وإنشاد الابتهالات ورقصات الدراويش وتوزيع الحلويات و«العيديات» على الأطفال.

وبعد المولد، تطبِّق الحدود وينزف أصحاب الذنوب، فالجلد عقوبة الزنا والمثلية الجنسية، وقطع يد السارق فريضة فى الجزر الإسلامية، بينما الجزر الأخرى تحتفل بك حين «تشرب» لأنك تدفع أجورًا وضرائب وتمول الاقتصاد القومى.

ولكن.. لا تندهش حين تجد «طبلة» ضخمة داخل أغلب المساجد، رغم أنها لا تتفق مع الحرص الدينى فى إندونيسيا، ويفسر المشايخ وجودها بأنها كانت تستخدم للنداء للصلاة قبل اختراع مكبرات الصوت لعدم وصول الأذان إلى الأماكن البعيدة، والحقيقة أن هذه الطبلة هى «تِركة» الهندوس والبوذيين فى المساجد، فأديانهم مليئة بالأجراس والطبول التى لا تستقيم الصلوات دون دقاتها، ثم غادروا إندونيسيا أو أسلموا وتركوا شيئًا منهم يعتبره المسلمون جزءًا من الفريضة.

ولاحظت «نورهان» أن الأئمة يسلمون يمينًا ويتبعهم المصلون ثم يسارًا، وليس كما يحدث فى مصر، وحين حملت دهشتها إلى الإمام، داوى حيرتها بأن الدين مدارس وطوائف وشيوخ، وكل شيخ وله طريقته وشعائره الخاصة.. «بعضها من الإسلام، والبعض الآخر بدع».

ووراء مساجد إندونيسيا آلاف الحكايات.. والأساطير.

المسجد الذى نجا من زلزال «تسونامى» عام ٢٠٠٤ تحوّل إلى قبلة لمن يريدون إشهار إسلامهم، فهو الحجة الأكبر والأوضح على وجود الله فى إندونيسيا، مسجد نجا وحده من الزلزال، وسط آلاف البيوت المدمرة، يكمل سيرة الإسلام الذى انتشر هناك دون سيوف أو غزوات أو دماء، فاستحوذ على حوالى ٩٠٪ من السكان بالحب. 

بجوار المسجد، الذى تحول إلى أهم مزارات السياحة الدينية، يأتى آلاف المتعبين من ديانات أخرى، ليشعروا بالراحة النفسية، فيستقروا فى إندونيسيا، ويزهدوا، ويغيروا دياناتهم، ويؤمنوا بنبى الإسلام.. تسألهم عن السبب فلا يجدون ردًا واضحًا: متاعب الحياة، وأحوال الدنيا، وعذاب الضمير، والحياة المادية، والشوق إلى النهاية المريحة.

يمكن أن تعتبره قرارًا مفاجئًا بلا منطق، لكن من يمنع روحًا سلكت الطريق إلى الله من أن يُتم عليها نوره.