رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

سر الخُبز العفن

مي مختار
مي مختار



الأحد، الثلاثون من يناير ٢٠١١، اليوم الثانى لحظر التجوال بجميع أنحاء الجمهورية، الانفلات الأمنى يسود الشوارع والميادين، البيوت والنوافذ جميعها مغلقة، الفزع ينتاب الأسر فى المنازل لانتشار البلطجية بالشوارع وهروب المساجين من خلف جدران السجون، «ثورة يناير وتوابعها»، نظرة ترقّب لمستقبل غير معلوم.. الساعة الثامنة صباحًا، صراخ قادم من المنزل المجاور لمنزل جدتى، هرولت مسرعة نحو الشرفة، زوجة بواب العمارة تستغيث «شقة الست تحية ريحتها وحشة قوى شكلها ماتت»، انقبض صدرى وأمنت بقول المرأة، فلم يصل لسمعى صوت «تحية أبو رحاب» على مدى أربعة أيام متتالية عبر نافذتها المطلة على الشارع، ولأننى اعتدت إلقاء تحية الصباح عليها كلما مررت أسفل نافذتها على الرغم من أنها كانت لا ترد الصباح على أحد، فقط كنت أعشق تفاصيل حياة تلك المرأة الوحيدة الكائنة بين جدران باردة بمفردها دون ونيس أو قريب، لخوفها الشديد من البشر، وإغلاقها أبواب شقتها فى وجه الجميع، كانت تجذبنى شخصيتها وتثير فضولى أحيانًا، قال عنها الجميع إنها مصابة بلوثة عقلية لسنوات بعد وفاة نجلها الوحيد غرقًا فى مقتبل العمر، لكنى كنت أراها دومًا كاملة العقل والحكمة والمنطق، فكانت تقف بشرفة منزلها عند كل أذان، وتردد الأذان خلف شيخ الجامع الكائن خلف منزلنا، وأحيانًا أخرى كانت تردد كلمات الأذان بلكنة إنجليزية، كانت أحيانًا تقف تخطب فى المارة أسفل شرفتها وتلقى عليهم دروسًا فى التاريخ وعلوم الفلك والأدب، كانت على قدر كبير من الثقافة والعلم، وكان الصبية الصغار يصفونها بالمجنونة، كنت أقف بالشرفة لأستمع لما تقصه تحية أبو رحاب من تاريخ الملكية وعبدالناصر والسادات.. نعم كانت على قدر كاف وواع من الثقافة والتأمل، عاشت تحية أبو رحاب بعد وفاة زوجها ونجلها مع شقيقتها فى منزل والدهما، كانت شقيقتها تعمل معدة للبرامج بمبنى التليفزيون المصرى، بينما كانت تعمل تحية موظفة بدار الكتب، كنت أراها مرة شهريًا تسير فى الشارع تحمل حقيبة يد قديمة جدًا، وترتدى ملابس عفى عليها الزمن، وحذاءً رثًا يكشف عن أصابع قدميها مع برودة الشتاء، تقف بين صفوف العملاء بأحد البنوك المجاورة، وأغلب الظن أنها كانت تقوم بصرف معاشها الذى كان عونًا لها فى مواجهة الحياة، وتعود لمنزلها حاملة حقيبة بلاستيكية كبيرة بها القليل من الخضروات وأكياس الفول والكثير من أرغفة الخبز، وكنت أتساءل: «الخبز الذى تحمله كثيرًا جدًا يكفى لشهور، وهى وحيدة بالمنزل، ماذا تفعل بكل تلك الأرغفة؟»، «وكيف يتناساها أقاربها ويتركونها تواجه مأساتها بمفردها؟».
تجمهر سكان العمارة أمام الشقة، الجميع يعلم أنها رائحة جثة «تحية» ولا وجود للشرطة فى كل الأقسام نظرًا للأوضاع السائدة فى البلاد من فوضى واضطرابات أمنية، فقرر الجميع كسر باب شقتها والإسراع بدفن الجثة التى بدا عليها التحلل من شدة الرائحة التى سرعان ما انتشرت بالعمارة، وذلك قبل موعد حظر التجوال، كنت أتابع المشهد بالشرفة، وتسللت من منزل جدتى لأتابع المشهد عن قرب من داخل شقة تحية، فلم أستطع دخول الشقة من شدة رائحة تحلل جثتها، وسارعت زوجة البواب وآخرون بتنظيف وتطهير المكان، وقامت مجموعة أخرى باستخراج تصريح الدفن بصعوبة شديدة، وبحضور سيارة الموتى رحلت تحية أبو رحاب لمقابر عائلتها بالإمام الشافعى فى هدوء، وبينما تقوم زوجة البواب بإلقاء المطهرات داخل الشقة لتنظيفها تسللتُ داخلها لأكتشف سر هذا العالم الذى كانت تعيشه تلك المرأة لسنوات بمفردها ما بين العقل والجنون، مئات الكتب القديمة أوراقها شديدة الاصفرار ممزقة ومهلهلة، زجاجات بلاستيكية فارغة، علب سجائر فارغة تعدت الألف علبة تحتفظ بها فارغة أعلى دولاب غرفتها، أما أنا فكنت أبحث عن سر الخبز، واكتشفت وجود أطنان من لقيمات الخبز العفن متراصة بعضها فوق بعض أعلى الطاولة بغرفتها وأكياس من الفول العفنة، وتعجبت لأمرها، فقد احتفظت طوال سنوات حياتها بأطنان الخبز حتى صارت عفنة، فهل كانت تخشى الجوع فكانت لقيمات الخبز بمثابة مصدر الأمان لها؟، وهل ماتت جائعة فلم تقو على الوصول للقيمات الخبز؟. انتبهت لصوت زوجة بواب العمارة تقول «مش لاقية عندها فوط فى دولابها ولا ملايات نغطيها فى الخشبة»، عدتُ مسرعة لمنزل جدتى وحملت من مقتنيات جدتى من الفوط والملاءات النظيفة كى أستر الست تحية قبل ذهابها لمثواها الأخير.
رحلت تحية أبو رحاب المرأة المنظمة العاقلة رافضة الفوضى والانفلات الأخلاقى الذى ساد البلاد فى تلك الفترة الزمنية مع أحداث ثورة يناير، لحقت بجدتى بعد ثلاثين يومًا من رحيلها لتدفن بمقابر عائلتها المجاورة لمقابر جدتى بالإمام الشافعى، رحلت المرأة التى احتار الجميع فى شخصيتها ما بين العقل المنظم والجنون العتيق، رحلت ومعها سر الخبز العفن.