رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حكايات نجيب محفوظ فى دفتر الأطباء

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ


بعد تعرضه لمحاولة الاغتيال الشهيرة فى منتصف التسعينيات، كان علاج الأديب الكبير نجيب محفوظ «متفردًا» تفرد شخصيته الأسطورية، وأدبه الذى لن يتكرر، فصاحب «الثلاثية» تم علاجه داخل مستشفى الشرطة بـ«جرعات منتظمة من الناس».
ما الحكاية؟ وكيف حدثت بالتفصيل؟.. سؤال يجيب عنه فى السطور التالية، عدد من الأطباء المصاحبين له فى رحلة حياته الثرية، الذين لم يكونوا مجرد أطباء فحسب، بل أصدقاء مقربين منه ومن الأعمدة الرئيسية لـ«شلة الحرافيش»، إلى جانب تفاصيل أخرى عن حالته الصحية، ونظرته للطب والعلم.

يحيى الرخاوى: زيارات أحبابه سر تعافيه بعد الحادث المشئوم

أشيع عن الدكتور يحيى الرخاوى أنه كان الطبيب النفسى لـ«نجيب محفوظ»، الذى أهّله للكتابة بعد محاولة الاغتيال التى تعرض لها فى التسعينيات، لكن ابنة «أديب نوبل»، أم كلثوم، قالت لـ«الدستور» إن «الرخاوى» ساعد والدها فى مستشفى الشرطة، الذى دخله بعد محاولة الاغتيال، ثم توطدت العلاقة بينهما، واستعان به والدها فى تنظيم ندواته.
وفى كتابه «فى شرف صحبة نجيب محفوظ»، حكى «الرخاوى» تفاصيل هذه العلاقة، وهو ما نترككم معه فى السطور التالية:
كلمنى المرحوم أ. د. سامح همَّام، الذى أجرى له الجراحة بعد الحادث، وهو أستاذى وصديقى، وطلب منّى متابعة حالة نجيب محفوظ، بتكليف من إدارة مستشفى الشرطة، وبالفعل ‏استجبت لذلك، ودخلت‏ ‏حجرته فى المستشفى، لكن لم أجده هناك، و‏كان‏ ‏فى ‏الحمام، فانتهزتها فرصة لأسأل‏ ‏الممرضة‏ ‏عن‏ ‏أحواله‏ عامة، ‏فقالت‏: «‏أحسن».
‏خرج‏ ‏من‏ ‏الحمام‏ ‏فوقفت‏ ‏لاستقباله‏، ولم‏ ‏يرنى ‏من‏ ‏قبل‏ ‏إلا‏ أقل من ساعة‏ ‏سنة‏ ١٩٧١. ‏عرفته‏ ‏بنفسى ‏فهز‏ ‏رأسه‏ ‏ثم‏ ‏أردف‏ ‏بحشرجة‏ ‏خشنة:‏ «‏أهلًا‏ ‏وسهلًا‏».
حضرت‏ ‏الزوجة‏ ‏الفاضلة‏، ‏وعرفنى ‏بها‏ ‏مشيرًا‏ ‏إلىّ: «‏دكتور‏ يحيى‏» ‏بلهجة الذى يعرفنى ‏ ‏من‏ ‏قبل‏، ‏حتى شعرت بأنه يعرفنى بحدسه أكثر وأقدم.
فى الزيارة الأولى ‏لم‏ ‏أضف‏ ‏دواءً‏ ‏واحدًا‏، ‏ولم‏ ‏أغير‏ ‏نظامًا‏، ‏ولم‏ ‏أحدد‏ ‏نصيحة‏، فى اليوم التالى هاتفنى أحد مسئولى المستشفى، وكان يدعى «العميد د. الحسينى»، و‏قال:‏ «‏أين‏ ‏أنت ومتى نراك؟، الأستاذ يسأل عنك»، فقلت: «حاضر»، وذهبت.
‏لم‏ ‏يكن‏ ‏الحال‏ ‏أحسن‏، ‏بل‏ ‏العكس‏، ‏فسألنى ‏«العميد ‏الحسينى»: «‏ألا تنصح بعقار معين ‏‏أو‏ ‏إجراء‏ ‏معين‏؟» ‏فأخبرته‏ ‏بعد تردد: «‏أستاذنا‏ ‏عاش‏ ‏طول‏ ‏عمره‏ ‏يتزود‏ ‏بجرعة‏ ‏محسوبة‏ ‏من‏ ‏الناس ‏الأوفياء، ‏‏ومن‏ ‏عامة‏ ‏الناس‏، ‏وما‏ ‏يعانى ‏منه‏ ‏الآن‏ ‏هو‏ (‏فقر‏ ‏ناس).. علينا أن نحترمه ‏كما‏ ‏نتكلم‏ ‏عن‏ ‏فقر‏ ‏الغذاء‏، ‏وفقر‏ ‏الفيتامينات‏.. إلخ‏».
منعت ‏إدارة‏ ‏المستشفى ‏الزيارة‏ ‏بعد‏ ‏أن‏ ‏توافد‏ ‏الناس‏ ‏عليه‏ ‏بكل‏ ‏الحب‏ ‏يطمئـنُّون‏ ‏ويتبركون‏ ‏ويدعون‏ ‏بما‏ ‏تيسر‏، ‏وهو‏، بتواضع سمعه وبصره معًا، ‏لا‏ ‏يستطيع‏ ‏أن‏ ‏يلاحق‏ ‏كل‏ ‏هذه الإحاطة الصادقة الحميمة، ناهيك عن الرد على الأسئلة، أو الدخول فى أى حوار مهما قصر، ‏وفى ‏نفس‏ ‏الوقت،‏ ‏هو‏ ‏بما‏ ‏يتمتع‏ ‏به‏ ‏من‏ ‏أدب‏ ‏ورقة‏ ‏ومجاملة،‏ ‏لا‏ ‏يستطيع‏ ‏إلا‏ ‏أن‏ ‏يحاول‏ ‏طول‏ ‏الوقت‏ ‏أن‏ ‏يتابع‏ ‏ويستجيب‏، ‏فأُنهك‏ بسبب ذلك‏.
‏ربما هذا هو ما دعا ‏المستشفى ‏إلى اتخاذ القرار المعتاد فى مثل هذه الظروف بمنع الزيارة ‏إلا‏ ‏عن‏ ‏الأهل‏ ‏وبعض‏ ‏الأصدقاء‏ ‏الذين‏ ‏بالغوا‏ ‏هم‏ ‏بدورهم‏ ‏فى ‏عدم‏ ‏الزيارة‏، ‏حرصًا‏ ‏على‏ ‏راحته‏، ‏ولكنى أدركت، ثم تأكدت من مدى افتقاره للناس، وأنه لا نقاهة ولا تقدم‏ إلا بالناس، ومع الناس: ‏فكيف‏ ‏السبيل‏؟
‏قلت‏ ‏لـ«د. ‏الحسينى»: «‏نضبط‏ ‏جرعة‏ ‏تعاطى ‏الناس‏ ‏الطيبين‏، الذين يدركون مـَنْ هو، وكيف، ونبدأ بالأحوج إليهم فالأحوج، نضبط ذلك بجدول: ‏بالاسم‏ ‏والساعة‏ ‏يوميًا‏»، ‏وقد‏ ‏كان، عملنا‏ ‏جدولًا‏ ‏بأسماء‏ ‏الأصدقاء‏ ‏ومواعيد‏ ‏الزيارة ومدتها‏، وذلك بعد أن اتصلت بمن يعرف التفاصيل أكثر، وهو الأستاذ‏ ‏جمال‏ ‏الغيطانى.
أخبرت «الغيطانى»‏ ‏بالوصفة‏ ‏التى ‏وصفتها‏ ‏للأستاذ‏، ‏وهى «‏جرعة‏ ‏مناسبة‏ ‏من‏ ‏البشر‏ ‏الطيبين‏ ‏الملتزمين»‏، ‏واتفقنا‏ ‏على ‏جدول‏ ‏بسيط‏ ‏محكم‏، بالاسم واليوم والساعة والمدة، فلان يوم كذا الساعة كذا لمدة كذا، وهكذا، وانتقينا الأقرب فالأقرب من الذين حفظوا الأستاذ صامتًا ومتكلمًا منصتًا ومفكرًا منحنيًا ومعتدلًا، فمن يعاشر الأستاذ ينطبع ويتكيّف ويتكامل حتى مع وضع جلسته، وزاوية ميل جسمه.
أبلغته هذه الوصفة، وكنت قد حكيت للأستاذ عما دار بينى و«د. الحسينى»، فضحك وفرح، فطلبت منه تحديد من يفضِّل أن نبدأ به، فقال على الفور: «زكى»، سألته: «زكى من؟»، قال: «زكى سالم»، قلت له: «أنا لا أعرفه»، قال: «اسأل جمال»، وعرفت أنه يعنى جمال الغيطانى، فلم أزد.
استعنت بكل من جمال الغيطانى، والصديق الجديد علىّ، زكى سالم، وبدأت بهما فى جدول «روشتة الناس».. اتصلوا بى، الزملاء فى مستشفى الشرطة، وأبلغونى أنه‏ ‏قد تم‏ ‏تنفيذ‏ ‏تعاطى «جرعة‏ ‏الناس»‏ كما أشرت تقريبًا‏.
اطمأننت من حيث المبدأ، و‏حمدت‏ ‏الله‏، ‏وقدَّرت‏ ‏أن‏ ‏الحالة‏ ‏إما‏ ‏ثابتة‏ ‏أو‏ ‏تتحسن‏، لكننى لم أطمئن تمامًا كعادتى، ورحت أراجع احتياجاته الطبية، فلم أجد أن هناك من التهديدات أو احتمالات الطوارئ ما يمنعنى أن أتساءل: «إلى متى؟».
شعرت بأن ‏بقاء ‏الأستاذ‏ ‏فى المستشفى أكثر يحتاج إلى حسابات موضوعية أعمق وأدق، خاصة أننى استشعرت‏ ‏أن‏ ‏الزوجة الكريمة‏ ‏الفاضلة‏ ‏تخشى ‏ما‏ ‏ينتظرها‏ ‏فى المنزل‏، ‏الخبرة‏ ‏مؤلمة‏، ‏والله‏ ‏معها‏، والمسألة ليست تمريضًا فحسب، بل هى أمْن وأمَان أيضًا!!
لكن‏ ‏لا بد‏ ‏مما‏ ‏ليس‏ ‏منه‏ ‏بد‏، ‏لا بد من ضبط توقيت العودة إلى منزله ليعاود تدريجيًا حياته كما اعتادها، وبأسرع ما يمكن، رغم كل الظروف.. أعلنتُ رأيى هذا لبعض محبيه، فوجدت مثل ما عندى فى رأى ‏الصديق‏ ‏جمال‏ ‏الغيطانى، الذى ‏حدثنى ‏بمثل‏ ‏أفكارى ‏هذه‏، ‏وكأنه‏ ‏طبيب‏ ‏زميل‏ ‏حاذق‏ ‏يشير‏ ‏بما‏ ‏ينبغى ‏ويُحسن‏ ‏التوقيت.

محمود الشنوانى: متابع جيد للأبحاث العلمية.. ولم يعارض «الاستنساخ»

أما الدكتور محمود الشنوانى فعرف نجيب محفوظ من خلال ندوته فى مقهى «ريش» الشهير وسط القاهرة، فى عام ١٩٧٦، والذى عرف به صدفة، حيث كان يمر من أمام المقهى، و«نجيب» خارج فى اتجاهه إلى البيت، فتوجه إليه «الشنوانى» وأبدى إعجابه به، فرحب به ودعاه لندوته، وأخبره بأنها تعقد كل يوم جمعة، ومن هنا بدأت علاقتهما حتى وفاة الأديب الكبير.
وقال «الشنوانى»: «النظر إلى أن مهنتى جزء من علاقتى بنجيب محفوظ لم يكن موجودًا إلا فى موقف واحد، وبالصدفة أيضًا، ففى عام ٢٠٠٣، قبل وفاته بـ٣ سنوات، التقيته فى فندق (سوفيتيل)، وما أن سلمت عليه شعرت بأن جسده غير طبيعى، ولما سألته عن السر، رد بأنه يشعر بالتعب منذ الصباح».
وأضاف: «قست له الحرارة فوجدتها مرتفعة، وهنا نصحته بأن يرجع إلى البيت، أو أن يذهب إلى المستشفى بسرعة، وذهبت معه إلى بيته، ثم ذهبنا به إلى مستشفى الشرطة فى العجوزة، وهناك عرضته على طبيب، واتضح أنه يعانى من التهاب رئوى، فتم احتجازه لمدة ٣ أسابيع».
وكشف عن أن «نجيب» من المؤمنين بالعلوم الطبية، ويرى أن العلم يحمل الأمل والسعادة والتقدم للإنسان، ويتابع جديد الأبحاث العلمية، ويسعد بأى حدث علمى، وحين تم استنساخ النعجة «دوللى» كان رأيه إيجابيًا، بعض النظر عن الإشكاليات الأخلاقية أو الدينية أو الاجتماعية لموضوع الاستنساخ.