رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فوق أجنحة اللهب

رشيد الهاشمي
رشيد الهاشمي



كانت النار التى أوقدها رَحّال فى قلب الصحراء المنسابة فى الفضاء المكتوم، فى الفراغ القاسى بفلوات مدينة سجلماسة، تفترس أعواد الحطب افتراسًا، ولم تكن قد أبقت إلا جذر شجرة -زقوم- زيتون كان يئن فى خفوت، وينزف نزيفًا حادًا مصدرًا صوتًا يشبه وجع- الحنين- ناقة فقدت للتو حُوارها المسكين.
كان رَحّال لا يلقى بالًا لهذا الوجع، فهو منشغل بهذا الشجن المكتوم الذى يئن- يحن- فى داخله. من حين لآخر، كان يرخى يديه السمراوين على الموقد ليستمدَّ بعض الحرارة حتى إذا بلغ الشجن مداه حدق فى الفراغ البهيم بعينين مليئتين بكم من الأحزان- الأوهام-وحين لا تُهدئ الظلمة من روعه يتطلع إلى الأعالى ويتأمل السماء المرصعة بقناديل النجوم كأنها لهب يسلب العقول ليلًا ثم يصبح رمادًا.
هو لم يعترف يومًا بانتمائه لسلالة الرقيق، فهو يؤمن بكونه جرمًا مسبوكًا من لحم ودم وروح. هو يؤمن فقط بحبه للصحراء، لهذا السلطان الأقوى الذى يَقهر ولا يُقهر، يغزو ولا يُغزى، للنوق المرتد، للفضاءات الشاسعة التى لا حدود لها، للوشاح الأزرق الملون بالدم، لموقد النار الحارة، لوعاء الشاى المنتصب فوق الأثافى والمعطر. الأشياء الأخرى لا تعنيه فى شىء.
قبل سنوات حملته قافلة الألف بعير سلعة بشرية مكبلة بالقيود- ولا يزال- والأصفاد- ولا يزال- من مملكة تيمبكتو إلى سوق سجلماسة- لم يعد كذلك- العظيمة. تكأكأ التجار بسرعة البرق على القافلة بعدما ذروا العبادة والصلاة. كانوا خليطًا من عرب بنى هلال، وأمازيغ صنهاجة ولمتونة، والمورسكيين الحمر. كانوا ينظرون إليه بعين حمئة- لا تنطفئ- ثم دنوا منه وبدأوا يفتحون فمه ليقيسوا عمره بأسنانه، ثم تحسسوا عضلاته المفتولة- وما نفع ذلك- وصدره المنتفخ، وهو خواء.
تزايد التجار على ثمنه كما يتزايدون على شراء البعير. لكن عبدالرحمن الأندلسى الذى لم يرقه شىء فى هذه الدنيا الفانية، كما راقه امتلاك أقوى العبيد بالمدينة، تابع النزال حتى آخر نفس إلى أن اشتراه. قال له التاجر الطارقى وهو يسلمه القيد:
- لا تنس أن تعقله.
تساءل الأندلسى:
- كيف أعقلُ عبدًا؟ هو ليس ناقة لأعقله. ماذا تراه كان يقصد؟ أكان يعنى أن أتركه بأصفاده؟
فى حياته كلها، لم يسبق له أن ربط رقًا أو حتى فكر فى ذلك. كلهم يخدمونه بود ولم يحدث أن هرب له أحدهم. لم يسلم بصواب وصية الطارقى، لكنه فى الوقت نفسه لم يستصغرها. يستطيع أن يستصغر كل شىء ما عدا وصية الملثمين الذى يفهمون الحياة على نحو جيد. يَغزون ولا يُغزون. يَقهرون ولا يُقهرون.
أطلق عليه اسمًا لطيفًا- رحّال- طمعًا فى أن يتأثر المستعبد بهذا الاسم ويظل دائمًا خاضعًا وخنوعًا- لكنه لا يعلم معنى الاسم حتى- ثم ذهب به إلى كبير فقهاء المدينة ليكتب له حجابًا مجبولًا بحكمة الأوائل وبركة الأولياء، ودسه فى المقبرة المنسية كما أشار إلى ذلك كاتب التميمة. لم يكتف بهذا، بل ذهب به إلى أشهر القصابين وأخصاه بمدية من حديد: حتى لو فكر فى العودة إلى قبيلته، فإنه لن يجسر على الهرب بعدما فقد رجولته التى هى شرفه وبؤبؤ عينيه- كلنا مخصيون ولا نبالى-.
اطمأن الأندلسى على فعلته، وقال فى نفسه إنه عمل بالوصية على أحسن وجه، لكن لا يعلم أن الحنين لا يربطه عقال. عندما يستفحل برَحَال الشوق ويتحول إلى نوبة جنونية، ينتظرُ الليل إلى أن يرخى سدوله ثم يتوارى عن الأنظار. يعبر إلى الجهة الجنوبية للمدينة، حيث يسْهل التسلل عبر السور الكبير للمدينة. يتوجه صوب الصحراء، ويقضى الليل وهو يمشط رجليه فوق الرمال الباردة ويستنشق عبقًا من الروائح المثقلة بالأشواق التى تنقلها الرياح الجنوبية. الصحراء ترمى بكل شىء فى العدم. ترمى بالحزن الراقد فى القلب، وبالأشواق الذائبة فى جدار الروح، لكنها لا تلقى بالهوان لأن يعلق فى الحلق ويستعصى على الحر بلعه.
فى هذه اللحظة، لم يكن يبحث فى هذه الفيافى سوى عن الأمل- الألم- الأمل فى أن يكون إنسانًا ككل الناس التى تجوب الأسواق وتأكل الطعام دون اتباع أوامر الأرباب والانتهاء لنهيهم. هو لا يطمح فى أن تكون له هوية، سعيد جدًا فى برزخ الأهوية الذى يعيش فيه، لكنه يريد حريته. هذا الصباح، اقترف مولاه ذنبًا جسيمًا يحتم عليه دفع ثمن الخطيئة، إذ جامع زوجتيه معًا فى نهار رمضان، والأمر يحتم عليه إعتاق بعض من رقيقه. قبل أيام، أرسل إلى إمام المدينة يسأله فى الأمر، فطلب منه بضعة أيام ليفتيه فى قضيته.
العبيد تفهم فى فتاوى إعتاقها أكثر من الفقهاء أنفسهم، لأنها تتوق إلى ذلك، ليس ثمة شىء أصعب من أن يملكك شخص فى مثل صورتك وهيئتك، ولا تملك شيئًا حيال الأمر سوى الخضوع إلى غلبة القدر وقهر الرجال. فى المدينة كلها ما ارتكب مؤمن خطيئة مثل هذه إلا وأشار عليه الفقهاء بصيام شهرين إن كان مغلوبًا فى دنياه، وبإعتاق رقبة إن كان ميسور الحال. رحّال حسم أمر الفتوى قبل أن يحسم فيها الفقيه، لكن الذى يخشاه هو أن يعتق عبدًا آخر بدلًا منه.
عندما انقشع الغيهب، عاد رحّال إلى المدينة متسللًا عبر السور. ما إن دخل إلى الدار وهو يحبس أنفاسه فى صدره كى لا ينكشف أمره، حتى سمع خطوات مولاه عائدًا من المسجد برفقة الشيخ الطاهر بن عبدالله السجلماسى. عرف من فوره أنه ذاهب معه لكى يفتيه فى خطيئته. أرخى رحّال أذنيه وراح يصيخ السمع لكلام الإمام:
- فى العادة نُفتى فى مثل هذه الأمور بإعتاق الرقاب، لكن إعتاق الرقاب هذه الأيام صار يقض المضاجع. ماذا نفعل لو تحررت كل العبيد؟ إن شئت لا تفعل ذلك. أطعم الطعام وها أنت تُبت. غفر الله لنا ولكم.
- هذا ما يبدو لى أيضًا.
لحظتها أدرك رحّال أن حريته التى انتظرها منذ سنوات ليست سهلة المنال. تلفت عن يمينه وشماله ثم توجه نحو سور المدينة عازمًا على فك هذا العقال الذى أثقل كاهله، عازمًا على شق الطريق نحو رحال.
القصة الفائزة بالمركز الأول مكرر فى مسابقة صلاح هلال الأدبية للقصة القصيرة على مستوى العالم العربى ٢٠٢٠