رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ملك الأغنية الشعبية يروى «5»: البكاء الذى لا يتوقف على بليغ

بليغ حمدى
بليغ حمدى

بُكايا على بليغ حمدى مش هيخلص، أولادى بيبكوا عمّهم بليغ، أنا لما نزفت دم اتصلوا: «يا عم بليغ الحقنا»، دقايق وكان موجود، شالنى شيل رغم أن جسمه أصغر وكمان مريض، وكان جنبى فى الإسعاف.. آه يا بليغ يا حبيبى، يا ابن عمرى، بكايا هيفضل عليك العمر كله، بكايا على حلم وكفاح وأمل.. وإحنا فى العزاء كان جنبى كمال الطويل، لفتت الزحمة نظره.. ناس كتير من كل صنف ولون، سألنى: إيه الحكاية يا محمد، كل الناس دى علشان بليغ؟ قلت له: هيّا دى الناس يا كمال.. اللى يعيش للناس عمره ما يموت جوّاهم، وبليغ عاش للناس.. رد: عندك حق.. بليغ فى موته بيرد الاعتبار لنا كلنا.
المصرى لا يمكن أن يتنازل عن تراثه وشخصيته، والاستعمار من نابليون بونابرت لما جاء بالحملة الفرنسية «١٧٩٨» حتى احتلال الإنجليز لمصر «١٨٨٢»، عرفوا أصالة المصريين فى الحكاية دى، بليغ وضع إيده على الميزة دى، عظمته إنه سمع الغرب ودرسه، وتأثر به فى حدود فهمه، بليغ عمل موسيقى بريئة من طينة مصر، أنا أشبّهه بنجيب محفوظ، وأشبّه محمد عبدالوهاب بتوفيق الحكيم، حلم بليغ كان فى أغنية عربية قومية ملامحها من التراث، وفى فترته الأخيرة كان مجنونًا بالتراث، لما كان بيجهز موسيقى مسلسل «بوابة الحلوانى»، ولأنها عن أيام عبده الحامولى والخديو إسماعيل بحث عن كتب وسأل، وقرأ عن الحامولى، كان يفاجئنى: «الناس دى يا محمد عملت إنجازات عظيمة فى الموسيقى، وواجب علينا نكمّلها.. تفتكر يا محمد التاريخ حيقول علينا إيه لو تجاهلنا الناس دى؟».
كان بليغ مؤمنًا بأنه فرع فى شجرة الحامولى وسيد درويش والقصبجى وكل اللى عمل إضافات حقيقية للموسيقى العربية، أنا شفت فى لبنان أد إيه الرحبانية مفتونين به، وقالوا له: «طلعتلنا منين؟».
أنا كنت مؤمن به، كنت مصدّقه، أنا شاهد على أن ملك المغرب الملك الحسن الثانى «لم يكن تُوفى وقتها» استضافه، وأعطاه سيارة وسائقًا، ووفّر له كل الإمكانات، وقال له: «لف يا بليغ المغرب، ابحث لى يا بليغ عن تراثنا الموسيقى»، مثلًا فى أغنيتى «لالا يا الخيزرانة»، التقط لحنها من تراث الجزيرة العربية، كان فى السعودية، وسمع نغمة شعبية، جرى وراها فى كل السعودية علشان يعرف أصلها.
بليغ كان مؤسسة، ثائرًا، وزعيم ثورة فى الموسيقى، والثورة تحتاج إلى تنظيم ونظرية، يعنى إيه الكلام ده فى التطبيق؟ أقولّك: هو كان يرى أن محمد رشدى متمسك بمصريته، فيعطيه «الأغنية المحلية»، ويعطى لعفاف راضى «الأغنية العلمية»، ويعطى لوردة «الأغنية القومية»، ويعطى لعبدالحليم «الأغنية الشاملة».. ولما وجدنى غارقًا فى المحلية، عمل لى «مغرم صبابة» و«وميتى أشوفك» و«طاير يا هوا»، كنت قلقًا من التحول ده، لكنه كان بعيد النظر وكسب رهانه، وكل ما أشوف الناس ملهوفة على الألحان دى، أعرف إنه كان عنده بُعد نظر.. كمان لما وجد فى شادية البنت المصرية مثل محمد رشدى، عملّها «خلاص مسافر وقولوا لعين الشمس ماتحماشى ويا حبيبتى يا مصر وآخر ليلة»، وألحان تانية كتير وكوّنت معها ثنائيًّا، وبالطريقة دى وضع كل الخيوط فى إيده، وانسحب عبدالوهاب لما فهم الحالة، لكن حاسة التاجر كانت صاحية عند عبدالوهاب، فتعاقد معه، وفتح له استديوهات شركة «صوت الفن» ليعمل كل تجاربه، مع نجاة وشادية وعبدالحليم ورشدى وغيرهم.
على فكرة محمد عبدالوهاب كان دايمًا شايل فى نفسه من بليغ، بدليل مذكراته اللى كتبها الشاعر فاروق جويدة بعد موته، قال فيها: «بليغ كان يبدأ بالذهب والفضة، وينتهى بالنحاس والصفيح»، رَأْى فيه ظلم قوى لبليغ، الحقيقة بليغ كان يبدأ بالذهب وينتهى بالذهب، طول عمر عبدالوهاب كان عنده حاجة من ناحية بليغ.