رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الرسول في مصر «14»

محمد الباز يكتب: تقرير سري لاغتيال «محمد رسول الحرية».. وعبدالناصر يتدخل لإنقاذه

محمد الباز
محمد الباز

بعيدًا عن حالة التشنج التى أحاطت بكتاب «محمد رسول الحرية»، الذى كتبه عبدالرحمن الشرقاوى بهدف إنصاف الرسول، صلى الله عليه وسلم، فإذا به يجد نفسه محاطًا باتهامات لم يتخيل أبدًا أن توجه له فى يوم من الأيام- تظل شهادة الناقد الكبير رجاء النقاش له قادرة على توضيح موقفه وتبرئة ساحته.
حاول «الشرقاوى» أن يقرب المسافة بين الفكر اليسارى الذى يعتنقه ويتحرك به وبين التراث الإسلامى، خاصة فى مساحتى التاريخ والفكر، لكنه لم يسلم.
يقول «النقاش» عن ذلك: محاولة الشرقاوى التوفيقية بين فكره اليسارى والتراث الإسلامى جرّت عليه الكثير من المعارك العنيفة، التى مات وفى نفسه شىء منها، ولم يستطع أبدًا أن يجد لها حلًا نهائيًا حاسمًا، لقد ثار عليه الكثيرون، ولم يتقبلوا منهجه فى دراسة الإسلام وتراثه.
ولنا أن نتخيل أن من تبعات هذه المعارك التى مضت عليها عدة عقود أن كتاب «محمد رسول الحرية» ما زال مصادرًا فى عدد كبير من بلدان العالمين العربى والإسلامى.
يمكنك أن تحتج على ذلك بالطبع، وتقول إن التكنولوجيا أنهت أسطورة المنع، فلا يمكننا أن نستسلم الآن إلى أن هناك كتابًا ممنوعًا أو مصادرًا، أو أن هناك حاجزًا بينه وبين دخول بلد ما، لكننا نتحدث عن المبدأ نفسه، فهناك عقول تحجب وقلوب تمنع، وتتوارث هذه الفكرة جيلًا بعد جيل، وهو ما يعنى أن حالة الحصار التى واجهت «محمد رسول الحرية» ستتواصل، رغم أن «الشرقاوى» لم يكن يسعى إلا للدفاع عن الإسلام ورسوله من منطلق إنسانى بحت.
كان الكاتب والباحث مصطفى عبدالغنى هو صاحب آخر حوار مع عبدالرحمن الشرقاوى، يمكنك أن تقرأ نصه الكامل فى كتابه «الشرقاوى متمردًا» وفيه سأله: أين تضع نفسك فى خاطرة التصنيفات المألوفة: يمين... يسار... تقدمى... ماركسى... وسط... إلى غير ذلك؟
أجاب «الشرقاوى» بما يمكن أن يلخص لنا أمره كله.
قال: أنا ضد مثل هذه التصنيفات، وأنا موقفى يتحدد فى انحيازى للحق والحرية والشعب، يتحدد أكثر بالانحياز الواضح والصريح إلى هذا المعسكر الأخير.. الشعب، وإذ أردت التوقف عند التفكير الذى يتخذ سمة دينية، فإننى أقول: إن الفكر الحقيقى يجب أن يكون دائمًا لتحقيق الهدف الأسمى، وهذا الهدف الأسمى لا يخرج بأى حال عن تكوين مجتمع فاضل.
بهذه الروح التى عاش بها عبدالرحمن الشرقاوى قرر أن يكتب عن النبى محمد، صلى الله عليه وسلم، وهو ما يجعلنا نتساءل عمّا أغضب المتشددين منه، ذلك الغضب الذى وصل بهم إلى أن يُخرجوه من الملة، ويتهموه بأنه يسعى لهدم الإسلام، بل هناك من وصل فى عدائه للشرقاوى إلى أن طالب بإعدامه دون محاكمة، جزاء إساءته للنبى.
على عكس ما فعله العقاد وطه حسين ومحمد حسين هيكل، دخل «الشرقاوى» إلى سيرة النبى، صلى الله عليه وسلم، من زاويته الخاصة، حيث صاغ حياة الرسول بشكل درامى مجرد، تابعها من الطفولة حتى وفاته، لم يذكر فى كتابه كله آية واحدة ولا حديثًا نبويًا واحدًا، ولا رواية منسوبة لمؤرخ، عاش بنا فى حياة النبى فى تدفق لا يحول بيننا وبينه شىء، بحث فيه عن الإنسان لا النبى، فتش عن سماته البشرية بعيدًا عن معجزاته.
أعتقد أن هناك ما هو أشد على أصحاب التيارات المتشددة فى كتاب «محمد رسول الحرية»، فى معرض القاهرة الدولى للكتاب دورة العام ٢٠١٨ كان عبدالرحمن الشرقاوى هو شخصية المعرض، أقيمت عدة ندوات لمناقشة أعماله، من بين هذه الندوات كانت ندوة «الشرقاوى والفكر الدينى»، وكان ممن تحدثوا فيها الكاتب والباحث أنور مغيث الذى قال: استطاع عبدالرحمن الشرقاوى فى كتابه «محمد رسول الحرية» تطويع وجهة نظر التراث ليتلاءم مع الفكر الاشتراكى الذى كان سائدًا فى عهده، وهو بذلك حاول الأخذ من التراث، ليستفيد منه فى بناء نموذج حداثى يقدم القيم الإسلامية فى صورة حداثية، ومن يقرأ «محمد رسول الله» لن يتحول إلى مجاهد من أجل الإسلام، ولكنه سيتحول إلى مجاهد من أجل الحرية الإنسانية.
هذه هى النقطة المفصلية إذن فى الصراع، فعبدالرحمن الشرقاوى كان بكتابه يقطع الطريق على أصحاب هذه التيارات لتجنيد أتباع جدد، وهو أمر لا يمكن أن يتسامحوا فيه أبدًا، وكان طبيعيًا أن يشعلوا النار من حوله، فلا يطالبون بإحراق كتابه فقط، بل بقتله هو.
كانت الهجمة على الكتاب عنيفة، وكان طبيعيًا أن يصل صداها إلى الرئيس عبدالناصر، ولم يكن «الشرقاوى» بعيدًا عن إحداث هذا الصدى عنده، فعندما صدر أمر بمصادرة كتابه أرسل تليغرافًا إلى الرئيس عبدالناصر يقول له فيه نصًا: «إن تسجننى فى السجن الحربى أهون علىّ من منع مثل هذا الكتاب من النشر».
أزاح «عبدالناصر» كل التقارير التى أتته عن الكتاب، وسأل شيخ الأزهر وقتها الإمام محمود شلتوت عن رأيه فى الكتاب، فأكد إعجابه به وبمنهج كاتبه، فساند عبدالناصر الكتاب وأمر بإزالة أى عوائق أمام تداوله.
ما يحيرك بالفعل أن هناك من تصدى لكتاب «محمد رسول الحرية»، رغم أن أثره الباقى يقول إنه ما كان له أن يقف هذا الموقف أبدًا.
أحدثكم تحديدًا عن الشيخ محمد أبوزهرة.
لن أرهقكم كثيرًا بالبحث والتنقيب عن الشيخ أبوزهرة، سأتوقف بكم فقط عند ويكيبيديا، التى تقول لنا عنه إنه ولد فى المحلة الكبرى بمحافظة الغربية فى العام ١٨٩٨، دفعت به أسرته إلى أحد الكتاتيب التى كانت منتشرة فى أنحاء مصر تعلم الأطفال وتحفظهم القرآن، وقد حفظه الطفل النابه وأجاد تعلم مبادئ القراءة والكتابة، ثم انتقل إلى الجامع الأحمدى بمدينة طنطا، وكان إحدى منارات العلم فى مصر، تمتلئ ساحته بحلقات العلم التى يتصدرها فحول العلماء، وكان يطلق عليه الأزهر الثانى لمكانته الرفيعة.
سيطرت على محمد أبوزهرة روح احترام الحرية والتفكير، وكره السيطرة والاستبداد، وقد عبّر عن هذا الشعور المبكر فى حياته بقوله: ولما أخذت أشدو فى طلب العلم وأنا فى سن المراهقة كنت أفكر: لماذا يوجد الملوك؟ وبأى حق يستعبد الملوك الناس؟ فكان كبر العلماء عندى بمقدار عدم خضوعهم لسيطرة الخديو الذى كان أمير مصر فى ذلك الوقت.
انتقل الشيخ أبوزهرة بعد ثلاث سنوات من الدراسة بالجامع الأحمدى إلى مدرسة القضاء الشرعى سنة ١٩١٦، بعد اجتيازه اختبارًا دقيقًا، كان هو أول المتقدمين فيه، على الرغم من صغر سنه عنهم وقصر المدة التى قضاها فى الدراسة والتعليم، مكث فى المدرسة ثمانى سنوات يواصل حياته الدراسية حتى تخرج فى العام ١٩٢٤، وحصل على عالمية القضاء الشرعى، ثم اتجه إلى دار العلوم ونال معادلتها فى العام ١٩٢٧.
بدأ محمد أبوزهرة حياته العلمية والعملية، فبعد تخرجه عمل فى ميدان التعليم ودرس العربية فى المدارس الثانوية، ثم اُختير للتدريس فى كلية أصول الدين، ومنها إلى كلية الحقوق؛ ليدرس مادة الخطابة بها، ثم كلفوه بتدريس مادة الشريعة الإسلامية، وظل يعمل حتى أصبح رئيسًا لقسم الشريعة بالكلية ثم وكيلًا لها.
فى العام ١٩٥٨ تقاعد أبوزهرة، وعندما صدر قانون تطوير الأزهر فى بداية الستينيات أصبح عضوًا فى مجمع البحوث الإسلامية.
للشيخ أبوزهرة علامات فكرية كثيرة، فقد وضع كتبًا تتناول الملكية ونظرية العقد والوقف وأحكامه والوصية وقوانينها والتركات والتزاماتها والأحوال الشخصية، كما تناول ثمانية من أئمة الإسلام وأعلامه الكبار بالترجمة المفصلة التى تظهر جهودهم فى الفقه الإسلامى، وهم أبوحنيفة ومالك والشافعى وأحمد بن حنبل وزيد بن على وجعفر الصادق وابن حزم وابن تيمية، حيث أفرد لكل واحد منهم كتابًا مستقلًا.
لم يكتف أبوزهرة بكتاباته فى الفقه وعن أئمته، فله جهود مشهورة فى التفسير، فكان يفسر القرآن فى أعداد مجلة «لواء الإسلام» وأصدر كتابًا جامعًا عنوانه «المعجزة الكبرى» تناول فيه قضايا نزول القرآن وجمعه وتدوينه وقراءته ورسم حروفه وترجمته إلى اللغات الأخرى.
ختم أبوزهرة حياته بكتابه عن النبى، صلى الله عليه وسلم، «خاتم النبيين»، وهو الكتاب الذى تناول فيه سيرة الرسول، معتمدًا فيه على أوثق المصادر التاريخية وكتب السنة المعتمدة، وقد طبعت هذه السيرة فى ثلاثة مجلدات.
لن أدلك على الطريق، أعتقد أنك اكتشفت بعض ملامحه مما قرأته الآن عن الشيخ محمد أبوزهرة، فهناك تقاطعات كثيرة بينه وبين عبدالرحمن الشرقاوى، فكل منهما كتب عن أئمة الفقه. أبوزهرة كتب ثمانية كتب عن ثمانية منهم، و«الشرقاوى» كتب كتابًا عن تسعة منهم، ثم أفرد كتابًا عن ابن تيمية الذى وصفه بأنه الفقيه المعذب.
الأهم من ذلك أنهما اجتمعا فى كتابة سيرة النبى، صلى الله عليه وسلم.
«الشرقاوى» كتب فى بداية الستينيات «محمد رسول الحرية»، وأبوزهرة كتب فى بداية السبعينيات «خاتم النبيين».. صحيح أن المنهج مختلف تمامًا والحجم أيضًا، أبوزهرة كتب السيرة فى ثلاثة مجلدات حوت ١٥٣٧ صفحة، بينما كتاب «الشرقاوى» لا يتجاوز الـ٤٠٠ صفحة، لكن فى النهاية حاول كل منهما أن يسلك الطريق نفسه.
قد يكون مزعجًا لمن يعرفون الشيخ محمد أبوزهرة أن يكون كتابه مغمورًا، فلا يعرف كثيرون عنه شيئًا، وحتى لو عرفوا فلن يلتفتوا إليه؛ لأنه كتاب تقليدى جدًا، فعل فيه مثل ما فعله سابقوه فى كتابة السيرة، لكن «الشرقاوى» كان مجددًا وصاحب مدرسة حديثة فى كتابة السيرة النبوية.
أعرف أن الملل بدأ يتسرب إليك، فلماذا أقارن بين ما فعله «أبوزهرة» وما فعله «الشرقاوى»؟
ومن حقك أن تعتقد أننى خرجت عن الموضوع الرئيسى.
لكن عندما تعرف أن «أبوزهرة» نفسه كان صاحب التقرير الأهم والأشهر، الذى تعرض بسببه كتاب «الشرقاوى» للمنع والمصادرة والتشهير والتكفير واللعنة، فيمكن أن يجعلك ذلك تنفض الملل من على كتفيك، فنحن أمام قصة جديدة وأعتقد أنها مثيرة.
التقرير لم يكن فكريًا اكتفى بنشره، ولكنه تقدم به إلى المسئولين فى أجهزة الدولة المختلفة، بما يعنى أنه كان يقصد مواجهة الكتاب بطريقة أمنية، مستجيبًا لمن كانوا يدعون إلى إحراقه وإعدام صاحبه.
ظل تقرير محمد أبوزهرة سريًا، حتى العام ١٩٧٥، عندما نشرته مجلة «الاعتصام» وهى مجلة كانت تصدرها جماعة الإخوان المسلمين، فأصبح السر أمرًا يتداوله الناس، ويبدو أن «أبوزهرة» هو من خطط لنشر التقرير ربما باعتباره نوعًا من الجهاد فى سبيل الله، فقام بتسريبه إلى أحد أعضاء جماعة الإخوان وهو محمد نعيم الذى أوصله إلى مجلة الاعتصام.
لم أطلع على التقرير فى مجلة الاعتصام، قرأت تفاصيله فى كتاب اسمه «وامحمداه... إن شانئك هو الأبتر» لمؤلف مغمور اسمه سيد حسين العفانى، ينحاز كلية ضد عبدالرحمن الشرقاوى، وكتابه «محمد رسول الحرية».
يشير «العفانى» إلى أن الشيخ محمد أبوزهرة قدم تقريرًا إلى المسئولين، سجل فيه تعمد إساءة عبدالرحمن الشرقاوى إلى الرسالة المحمدية وجوهر العقيدة، ورغم خطورة ما ورد فى التقرير، فإنه لم يلق حظه من النشر فى وسائل الإعلام على نطاق واسع، ولم يلتفت إليه المسئولون، وبقى الكتاب متداولًا بالأسواق.
لم يكن «العفانى» دقيقًا فيما ذهب إليه، فأغلب الظن أن محمد أبوزهرة لم يعد التقرير من أجل النشر فى الصحف، كان يستهدف به الكتاب وصاحبه، فالتقرير كان تحريضيًا بامتياز، ولولا شهادة شيخ الأزهر الإمام محمود شلتوت التى قدمها للرئيس عبدالناصر، لكان مصير الكتاب الحجب الدائم وتشويه السمعة والإساءة المطلقة التى كانت ستلاحقه إلى يوم الدين.
لم ينشر التقرير فى الغالب، لأن «أبوزهرة» فشل فيما أراده، وقد يكون دفعه للنشر قبل وفاته- وهو النشر الذى لم يشهده على أى حال- محاولة منه ليثبت حقه التاريخى على الأقل أمام الجماعات المتطرفة وتيارات الإسلام السياسى، وأعتقد أن هذه الجماعات استفادت من هذا التقرير بشكل كبير.
لن أضع أمامكم التقرير كاملًا بالطبع، فعلى المستوى الفكرى لن يضيف لنا كثيرًا، أعتقد أنك يمكن أن تخمن محتواه، وعلى المستوى السياسى لا يمكننا التعامل معه إلا على أنه مكيدة وخطة مدبرة للوقوف فى طريق أى اجتهاد أو محاولة للعبور بالفكر الإسلامى من الجمود إلى التحرر.
يقول «أبوزهرة» فى بداية تقريره إن كتاب «محمد رسول الحرية» لم يسلم من الخطأ، أو بالأحرى كان له اتجاه غير دينى، وفى دراسته لم يدرس محمدًا، صلى الله عليه وسلم، على أنه رسول يوحى إليه، بل على أنه رجل عظيم له آراء اجتماعية، فسرها الكاتب على ما يريد، وقد تكون هذه الكتابة مفيدة لقوم يُصغرون من شأن محمد، ويهونون من أمره، فتزيل عنه ما يتوهمون، وتبين أن له شأنًا ومقامًا فى تفكيره ومنحاه، وإذا لم تكن الكتابة صادقة من كل الوجوه فى ذاتها، فهى تصوير حسن فى الجملة لغير المسلمين، وفى هذه الحال فقط.
وأما نشر هذه الكتابة- كما يقول «أبوزهرة»- بين المسلمين الذين يعرفون مقام النبى، صلى الله عليه وسلم، ومقام الرسالة الإلهية التى يحملها، النبى صلى الله عليه وسلم، والتى هى مصدر علمه، فإنه لا فائدة فيها من جهة، وتهوين للعقيدة الإسلامية من ناحية ثانية، وهى غير صادقة من جهة ثالثة، وإذا برر نشرها بين غير المسلمين لتقريب نفوسهم من مبادئ محمد، فنشرها بين المؤمنين باعث على الفتنة ومنفر للقلوب ومضعف للإيمان.
يجهز «أبوزهرة» على الكتاب بشكل كامل عندما يقول: إن أول ما يلمحه القارئ من الكتاب بعد استيعابه جملة وتفصيلًا أن الكاتب يقطع النبى، صلى الله عليه وسلم، عن الوحى، فكل ما كان من النبى من مبادئ وجاهد فى سبيلها إنما هى من عنده، لا بوحى من الله تعالى، وهى به بمقتضى بشريته، لا بمقتضى رسالته، ولعل العنوان الذى اختاره للكتاب- مع إردافه بعنوان آخر صغير- يشير إلى بشرية النبى، صلى الله عليه وسلم فقط، وهذا العنوان قوله «إنما أنا بشر مثلكم»، فقد اختار هذه الجملة ليعلن أن ما وصل إليه النبى، صلى الله عليه وسلم، من مبادئ جاهد لأجلها إنما هى صادرة عن بشرية كاملة لا عن نبوة.
ولكى يتم له الاستشهاد- ما زلنا نطالع معًا تقرير «أبوزهرة»- اقتطع الجملة اقتطاعًا مما قبلها ومما بعدها، فإن هذه الجملة وردت فى نصين من نصوص القرآن الكريم، أولهما فى سورة الكهف، وهو قوله تعالى «قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلى أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملًا صالحًا ولا يشرك بعبادة ربه أحدًا»، وثانيها فى سورة فصلت، وهو قوله تعالى «قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلى أنما إلهكم إله واحد، فاستقيموا إليه واستغفروه وويل للمشركين»، ونرى النص الذى اختاره شعار كتابه مقطوعًا عمّا قبله وما بعده، فما قبله هو قوله تعالى يخاطب النبى، صلى الله عليه وسلم، بقوله: قل، وهو يصرح بخطاب الله تعالى للنبى، صلى الله عله وسلم.. وما بعده هو قوله تعالى «يوحى إلىَّ»، وقد أبعده ولم يأت به، لأنه لا يتفق مع غرضه لأنه ينفى الوحى عن الحياة المحمدية.
التحريض على عبدالرحمن الشرقاوى يكتمل عند محمد أبوزهرة، عندما يقول إنه لا يكتفى بأن يقطع الرسالة عن الرسول، ويقطع الوحى عنه، بل يتجه إلى القرآن، فيذكر عباراته أحيانًا منسوبة إلى النبى، صلى الله عليه وسلم، على أنها من تفكيره ومن قوله- لا أنها قرآن موحى به قائله هو الله سبحانه وتعالى- وهذا ثابت فى الكتاب بكثرة.
يمكن أن تندهش من موقفى، فما الذى ننتظره من الشيخ محمد أبوزهرة أو من هم مثله؟
إنه غارق حتى أذنيه فى التقليدية، والدليل على ذلك سيرة النبى التى كتبها.
سأقول لك إن الرجل كان مجتهدًا بالفعل، ويروج له أتباعه على أنه كان يقدر الحرية والتفكير المنطلق، وعليه فما كان له أن يسقط هذه السقطة، لكن هذا ما حدث، وهو ما يشير إلى أن محاولات التجديد طوال تاريخنا تواجه المأزق نفسه، فهناك من يستريح لتراثنا على وضعه، حتى لو كان هذا الوضع لا يفيدنا فى شىء، ولا يلعب دورًا فى الدفاع عن الإسلام ضد منتقديه.
لم ينجح محمد أبوزهرة فى حصار كتاب عبدالرحمن الشرقاوى بتقريره السرى، ولم يحدث هذا التقرير أثرًا عندما تم نشره فى مجلة إخوانية، وحكم التاريخ أن يكون «محمد رسول الحرية» هو الأبقى، بينما لا يذكر أحد كتاب «أبوزهرة» عن النبى صلى الله عليه وسلم.. ولا يعرف أحد أنه موجود من الأساس.