رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

جرجس صفوت يكتب: ما رأته عيناي في «سيول زرائب مايو»

جرجس صفوت
جرجس صفوت

"مرحبًا بكم أنا هيزن أوديل، مُدرب أساليب بقاء".. تلك هي الجملة التي استقرت في أذني، حينما رأيت آثار السيول، التي جرفت منطقة زرائب 15 مايو، بمدينة حلوان.

لمن لا يعرف "أساليب البقاء"، فهو برنامج يُذاع عبر "ناشيونال جيوغرافيك"، مُتخصص في طرح أهم أساليب الشعوب التي تحيا بين البيئات "الأكثر فتكًا"، يُقدمه هيزن أوديل مُرشد النجاة العالمي.

لن أطيل عليكم بوصف المنطقة التي لم تعد كذلك، والتي تحمل مُسمى "زرائب 15 مايو"، فبغض النظر أنه لا حائط قائم بالمنطقة غير الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، والتي تحمل شعار "البابا شنودة الثالث"، وبغض النظر أيضًا عن أنه لا أرض تدوسها قدماك، فالماضون قدمًا هناك، يتقافزون بين المياه والأرض الموحلة، في مشهد مأساوي فعلًا..

إلا أن تلك المشاهد يمكنكم الإطلاع عليها، من خلال مقاطع الفيديو، المُنتشرة بين صفحات السوشيال ميديا، ولكن هناك 3 مشاهد أخرى، لن تصل إليكم إلا هنا أو بزيارة المنطقة..


المشهد الأول.. الأم تبقى أمًا

لنستحضر الصورة سويًا.. المنطقة تقع في منخفض شديد، كفنجان ملأته الأمطار، وجرفت سكانه لم يبق صامدًا إلا الكنيسة التي فتحت أبوابها لاحتضان أبناء المنطقة، بناء على تعليمات نيافة الحبر الجليل الأنبا بيسنتي أسقف المنطقة، والذي أصدر تعليماته بفتح أبواب كل كنائس الإيبارشية لمن ليس لهم أحد يذكرهم.

والكنيسة في نظر الأقباط هي أم.. هكذا يُعلمون النشئ في أشهر الترانيم "كنيستي كنيستي كنيستي هي أمي هي بيتي هي سر فرح حياتي"، مع مراعاة أن دورها كأم قد سبق دورها كبيت.

والأم مسؤولة عن إطعام أبنائها، وهو ما رأيناه حينما خصص القس أثناسيوس رزق كل ركن في الكنيسة للإيواء وتقسيم الملابس والطعام، وتوزيعه على المُحتاجين بواسطة خُدام الكنيسة الذين تفرغوا لخدمة الله في سكان المنطقة.

ولا نغفل أيضًا، عن دور كنائس قطاع 15 مايو جميعًا، خصوصًا كنيسة السيدة العذراء مريم والقديس البابا أثناسيوس بمجاورة 32، والتي على الرغم من تضررها الشديد إلا أنها فتحت كذلك أبوابها لإيواء عدد كبير من الأسر، وجعلت منها مخزنًا كبيرًا لاستقبال المؤن الخاصة برعاية تلك الأسر.


المشهد الثاني.. الحب أقوى من الكورونا

منذ أن علمنا، بوجود ما سُمي بـ"الكورونا"، ارتدينا الكمامات، وحملنا في حقائبنا الصابون والمُطهرات، خشية من انتقال الأمراض إلينا، ليس فقط الكورونا، بل الأمراض المُعدية عمومًا..

إلا أن ذلك ما لم ننجح جميعًا في الاستمرار عليه، منذ أن وطأت أقدامنا أرض المنطقة، فالحب الذي سرى في شرايين المئات من الخدام، الذين جاؤوا بشكل غير مُنظم، وغير مرتب، من كل صوب ونحو، كان أقوى من الكورونا..

كان هدف عماد أن يُساعد هذا الذي لا يعرف إذا ما كان مُسلمًا أم مسيحيًا، ليطعم وليكسو تلك الأسرة، التي لم يسأل أحد عن انتمائها الديني أو القبلي، بل غاص الجميع بملابسهم غير المُجهزة، وسط مياه الأمطار التي تجاوزت حاجز الركبة، وأعلى، غير عابئين بما تحمله تلك المياه من أضرار قد تؤذي صحتهم..

تسابق العديد في أن يوصلوا كراتين المياه المعدنية، ومعلبات الطعام، والبطاطين، التي أحضرها المتبرعون إلى المخازن، عابرين في ما لا يرونه بأعينهم بسبب الظلام الدامس، تخترقه نداءات الأصدقاء ليجمعوا أنفسهم "شباب الأنبا أنطونيوس أطلس".. "شباب العدرا الزيتووون".. "يا ايهاب.. يا عماد.. يا جوزيف.. يا جرجس".

إن كنت لم تدرك حتى الآن.. حجم الخطر الكائن في ذلك المشهد، فلك أن ترى ذاك الحصان الذي مر بجواره جميع المتطوعين، والذي نفق جراء السيول، والذي كان عبارة عن نصفين متصلين ببعضهما البعض، الأول هيكل عظمي أكلته كلاب المنطقة المعروفة بضراوتها، والآخر سليم يحتفظ بحالته، لعله أكل فعليًا أثناء كتابة تلك السطور.


المشهد الثالث.. شكرًا لهؤلاء

شكرًا راعي الكنيسة القس أثناسيوس رزق، الذي يتحمل حاليًا ما لا أستطيع أنا شخصيًا أن اتحمله ولا الكثير في دائرة معارفي.. شكرًا لوزيرة التضامن نيفين القباج، ليس على الحضور للمنطقة فنحن أهلها ولها أن تؤازرنا في محنتنا ولكن على ما سنراه من ثمار لتلك الزيارة واجتماعها مع القس اثناسيوس رزق عن قريب.

شكرًا للأنبا بيسنتي الذي خلف وراءه جيلًا كاملًا من الخدام، علمهم أن الكنائس هي بيت لكل من ليس له مأوى، وكذلك أبناءه الذين ورثوا عنه المحبة الحقيقية..

فشكرًا لكل خادم تحمل عناء ومشقة الوصول لحافة المنطقة، وشكرًا لكل من غامر بالنزول إلى المنطقة، بدء من الآباء الكهنة والخدام الذين لن أذكر أسماءهم حرصًا على أجورهم وكنوزهم في السماء ولكن لي أن أشكر تلك الكنائس التي أخرجت لنا جيلًا يعي جيدًا معنى الخدمة بكنائس حلوان جميعًا، وعلى رأسهم مطرانية السيدة العذراء، وكنائس الأنبا أنطونيوس بأطلس، ومارجرجس بشرق حلوان، والملاك ميخائيل بشارع جعفر، وأبي سيفين والأباء الرسل بالمشروع، إضافة إلى كنائس مايو مارمرقس، والبابا اثناسيوس.

وكذلك كنيسة العذراء بالزيتون وخدامها الذين تعاونا سويًا دون أن أعرف اسم أحدهم، وأخص بالشكر برسوم ويوساب من كنيسة السيدة العذراء بوادي حوف، وسامح الذي خلد لنا ملحمة الحب تلك ولم يخش أن يخسر معدات التصوير خاصته.