رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

خمس ساعات للوطن

زياد كمال حمامى
زياد كمال حمامى

تجلسون الآن معى، فى الصالة الكبيرة.. تنصتون إلى الأغانى الفلكلورية... يتسلى أكثركم بأكل المكسرات والبطاطا المقرمشة.. تنسون مشاكلكم اليومية.. والمستقبلية.. بالطبع لا تعرفون سر اللعبة التى يخبئها لكم مهرجان الغناء والفرح فى عشق الوطن.. أنا وحدى أعرف ذلك.. لكنكم.. تتناسون.. لا تفكرون بغير ساعة رقص ومرح ونسيان... يصدح أحد المطربين:
«يا مال الشام يا الله يا مالى...
طال المطال.يا حلوة تعالى».
تتذكرون أيام الصبا.. تحنون إلى تلك الأيام الجميلة التى مضت سريعًا.. يحن بعضكم إلى القدس.. وربما إلى الشام قبل الحرب القذرة، وربما إلى بغداد أو تونس الخضراء أو اليمن، لكن.. ضربات أقدام فرقة الرقص، تعيدكم إلى مهرجان النسيان، عفوًا، إلى حفلة الفرح.. ترمون الحزن خلف ظهوركم.. مؤقتًا.. تندهشون جميعًا حين ترون طفلًا لم يتجاوز الثامنة بعد يرتدى الألبسة العربية الأصيلة، ويدوِّر السيف حول جسمه بسرعة البرق.. يتلاعب بيده اليسرى بالترس.. الصدئ.. لا بُدَّ أَنَّ أكثركم قد تساءل فى نفسه:
- لماذا لا نعود كما كنا... نلعب جميعًا بالسيف والترس؟!
باندهاش مذهل تتابعون المبارزة الحامية بين الطفل اليانع كعود الريحان، والرجل العجوز.. يتلاعب المُتبارزان بالسيف.. يصد الطفل ضربة قوية بالترس.. يهجم على المحارب الهرم ويرميه أيضًا.. يضع فوق رقبته الحسام.. تتعالى ضربات الطبل.. يخف صوت المزمار.. يتوقف المحاربان.. تصفقون بحرارة للمشهد الجميل.. تعاود الفرقة تقديم أغانيها الحماسية: «بلاد العرب أوطانى..»، تتألمون.. تدخل فرقة الأطفال الصغار برتل متناسق.. يرفعون أياديهم عاليًا.. خطواتهم منتظمة مع تقسيمات أغنية «الأرض بتتكلم عربى.. الأرض.. أرض» تتحمسون، تصفقون، تفتخرون، تشعرون بالعزة والانتصار، الأطفال الراقصون يتأثرون.. تتأثرون.. تنفجر أغانى مهرجان الفرح شظايا.. تتوزع فيكم.. تَرِقُ قلوبكم.. تتوجعون.. تتعالى أصوات الجوقة والألحان.. تصفقون.. يبكى الأطفال بصدق.. يُعانق بعضهم.. بعضًا.. تذهلون.. يلتقط المصور مشهد الحزن.. تغيب الأصوات الشجية.. يتعالى تصفيق الجمهور الأمامى طويلًا.. يُغطى عليه تصفير الجمهور الخلفى كثيرًا!! أما أنتم الجالسون فى الوسط.. فإنكم ما بين التصفيق والتصفير تضيعون.. تؤلمكم أذانكم الكبرى، ولا أحد يشعرُ بكم!!
تُغلق الستارة... يقف أكثركم ويمشى محاولًا الخروج.. تظنون أَنَّ حفل الفرح انتهى حزنًا.. وكنت أعرف أَنَّ الحفل لم يبدأ بعد.. يتنبه مُعد الحفل إلى ذلك.. يظهر عليكم فجأة.. يقول لكم:
- أَيُّها الحفل الكريم.. استراحة خمس دقائق.. ولنا عودة أُخرى إلى الفن الأصيل والطرب الجميل.
يتوارى عن أنظاركم.. يتساءل:
- ماذا أعمل فى هذه اللحظة حتى أُحافظ على جمهور الحضور؟
فطِن إلى الأمر المُخبأ عنكم: «الآن يجب تقديم المشهد التمثيلى الكوميدى!
نادى أحد المُمثلين، الذى يُشبه طول قامته، وعرض كتفيه، أَحد المُلاكمين العالميين.. سأله:
- هل أنت على استعداد لتمثيل مشهدً ارتجالى؟
- إيه.. ه.. أنا مُستعد دائمًا لتمثيل أى دور رجالى كان أو نسائى.. لا فرق!!
وقف مُعد الحفل أمامكم.. قال لكم وهو يبتسم: «سيداتى.. سادتى.. نقدم إليكم الآن، مفاجأة الحفل! لقد وردتنا رسالة من شاعر كبير جدًا، لم يذكر اسمه! وعرَّفنا عن نفسه بأَنَّه فاز بعدة معارك أدبية.. وله مُعلقة شعرية.. يعتبر ملك قصائد الغزل فى العالم، ورُشحَ مؤخرًا لنيل جائزة «الكوكلاس كولا» المعروفة... صفقتم جميعًا.
تشوقتم لأن تعرفوا اسم هذا الشاعر العظيم.. طلب المُعد من الشاعر مجهول الهوية أن يتشرف ويصعد إلى المنصة.. لحظة صمت وترقب.. إذ لم يصعد أحد!! فوجئتم بعدم حضور الشاعر العربى العظيم.. كرر مُعد الحفل نداءه أكثر من مرة.. وفجأة وقف أحد الحاضرين من بينكم، وتوجه إلى المنبر، رافعًا يده كمن انتصر فى حلبة ملاكمة.. صفقتم.. دهش مقدم الحفل حين رآه.. تساءلتم.. من يكون هذا الشاعر؟! رحب به مُقدم الحفل وهو نفسه المُعد والمخرج:
- أَهلًا وسهلا بشاعرنا الكبير فى مهرجان الفرح.. هل لكم أُستاذ أن تحدثونا عن هويتكم الأدبية؟
- أنا الشاعر العظيم! معلم الأجيال، عروة بن الود الغامرى من كر.. بلاء.. قضاء باب الأزيكية.. جانب الجزار أبوعمشة!!
اهتز مُقدم الحفل من هذه المفاجأة الاسمية! وأدرك أن هذا الشاعر ما هو إلا وجه مُزيف، وكنتم لا تعرفون سر التمثيلية.. تتابعون الحوار بشغف.. سألهُ مُقدم الحفل:
- لكل شاعر دواوين شعرية تعبر عن وجهة نظره.. هل لكم أن تحدثونا عن دواوينكم الشعرية؟!
- من المعروف أن فى كل بيت دواوين، وأنا عندى ديوانتان «يعنى كنبايتان»، خشب زان قديم! وديوانتان عتيقتان اشتريتهم من سوق «الحرامية» مُؤخرًا! وأنا «مُسقف» كثيرًا، عندى فى البيت سقيفتان بدلًا من واحدة..! دُهش مُقدم الحفل من الإجابة! أراد أن ينهى المقابلة، لكن ضحكاتكم أعتطه الشجاعة لأن يُكمل مشهده، ووجد فى ذلك مناسبة جيدة ريثما تهيئ الفرقة الموسيقية نفسها، لهذا سأله مرة أخرى:
- كل أديب فى العالم يتأثر بغيره من الأدباء.. أرجو أن تذكر لنا بمن تأثرتَ من الشعراء الكبار فى العالم؟
- تأثرت.. بالشاعر العاطفى الحساس، الرقيق، وهو نبراسى فى هذه الحياة شاعر الشباب والحب والغزل فرانكشتين العربى!!
تعالت ضحكاتكم.. تظاهر مُقدم الحفل بأَنَّه ارتعش خوفًا من هذا الشاعر العملاق.. وكنتم لا تعرفون سر اللعبة.. ولهذا.. أكمل أسئلته فسأله من جديد:
- من المعروف فى الأدب أن هناك النظرية الاتباعية والواقعية والرمزية.. هل لكم أن تحدثونا عن النظرية الرمزية؟
- تأوه الشاعر بحسرة.. هزَّ رأسه ندمًا، كأنه المطعون بشرفه.. تحسر.. أردف قائلا:
- رمزية؟! لماذا تذكرنى بها.. إنها خائنة.. خائنة!!
- من هى الخائنة؟!.. سأله مُعد الحفل متعجبًا!
- رمزية يا أستاذ.. كنت أحبها، وكانت تحبنى، وذات يوم وجدتها مع غيرى.. لقد خانت حبى الصادق الأمين!
تنفجرون من الضحك.. ولا بُدَّ أَن أكثركم قد تذكر قصة حبه.. تأوهتم.. نسيتم أغانى الانفجار.. سأل المُعد الشاعر:
طيب.. أرجو أن تُسمع الجمهور بعضًا من شعركم الغزلى؟
راح المتشعر ينعق وهو يقول:
- يا حبيبتى..
لاتخافى علىَّ من المطر.
فأنا معى شمسية.
يا حبيبتى..
لا تخافى علىَّ من الأعداء
فأنا معى بندقية!!
تصاعدت ضحكاتكم بشكل غريب.. حاول معد الحفل أن ينهى المقابلة.. تمسك المقلق- بالميكروفون- أراد المعد أن يأخذه بحركة لبقة.. شده المستظرف بالشعر بقوة، ضحكتم.. وبعد عدة محاولات، فقد المُعد رُشده، وكنتم لا تعرفون سرَّ المشهد، وراح يضرب المستشعر، وقد أخذ منه- الميكروفون- بالقوة بين ضحكاتكم العالية جدًا، و استغراب راعى الحفل المبهم!
صفق راعى الحفل... صفقتم من ورائه:
تساءلتم: هل انتهى الاحتفال؟ لكن الستارة فتحت من جديد، وبدأت الفرقة الموسيقية بعزف الأناشيد الحماسية.. صفقتم.. انطفأت الأنوار فجأة!! ظننتم أَنَّه مشهد من الاحتفال.. سكتت الأبواق.. سكتم.. تساءل مدير الصالة: يا إلهى قُطعت الكهرباء؟! أَجابه صوت أَتى من العتمة:
- لا تتعب نفسك. البلد كلها غارقة فى الظلام.
صاح معد الحفل فى وجوه المساعدين خلف الستارة:
- استعملوا إذن المحرك الاحتياطى.
بحثوا عن المحرك.. مللتم من الظلام.. خرج راعى الحفل منزعجًا.. تعالت صيحات الأطفال.. لم يجدوا المحرك.. خرجتم وأنتم تتصادمون مع بعضكم.. حاول كثيرٌ من المراهقين الالتحام مع الأجساد الرقيقة.. سرقت جيوب وقلوب وأحلام الكثيرين منكم.. تساءل مدير الصالة:
- من سرق محرك الكهرباء؟!
أجابه حارس المخزن:
- الصعاليك..
وتابع ضابط أمن صالة الفرح مؤكدًا ذلك:
- أجل.. أجل.. لقد عاد عروة بن الورد!!
شاع خبر عودة «عروة بن الورد» ورفاقه الصعاليك، أما مُعد الحفل، فقد أصبح يمشى فى شوارع المدينة تائهًا.. مرتديًا ثيابًا فلكلورية بالية.. مُرخيًا لحية طويلة.. يُلقى أشعارًا غير مفهومة.. ولا أحد غيركم يعرف ما الذى.. جعله.. صعلوكًا.. منذ تلك الليلة.
قاص وروائى سورى