رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«يا مغيثة».. مسلمون على أبواب كنيسة العذراء بالغورية

صورة أرشيفية
صورة أرشيفية

فى هذه البقعة التى شهدت مرور السيدة العذراء حاملة ابنها المسيح فى رحلتها المقدسة إلى مصر، يقف المسلمون إلى جوار المسيحيين حاملين الشموع، لا يترددون فى المشاركة بالدعاء فى المكان الذى يعتبرونه منبعًا للبركة.. أمام أبواب كنيسة العذراء الشهيرة بـ«المغيثة» بمنطقة الغورية فى قلب القاهرة لا تستطيع أن تعرف، هل من يتضرع مسلم أم مسيحى؟ وعلى الرغم من أن حرص كثير من المسلمين على الاحتفال بفترة صوم السيدة مريم العذراء مع إخوانهم الأقباط يدهش العالم، ويثبت للجميع متانة الروابط التى تجمع بين أبناء مصر، إلا أن المشهد فى كنيسة المغيثة يبعث على دهشة أكبر.

فاطمة: سميت ابنتى مريم اعترافًا بجميلها.. وطالبة بالثانوية: أنظفها بالتعاون مع زملائى لأنال البركة
أمام أيقونة العذراء كانوا واقفين، البعض مشغول بترتيل «السلام لك يا مريم يا أم الله القدوس.. السلام لك يا مريم يا بكر بتول وعروس»، و«يا سلام على العدرا، رائحتها عطرة، جاية بفرح ومسرة، يا سلام على العدرا»، بينما يكتب آخرون أمنياتهم ونذورهم للعذراء على قطع من الورق ثم يشعلون الشموع.
البداية كانت مدهشة، فاللقاء الأول كان مع سيدة ترتدى زيًا يعلم من يراه- بسهولة- أنها مسلمة، وحينما سألناها عن سبب زيارتها الكنيسة قالت: «أنا معتادة على زيارة حبيبتى ستنا مريم بشكل دائم».
تتحدث فاطمة محمد، ٤٥ عامًا، عن سبب حبها «العدرا»: «جميع المصريين يبجلون السيدة مريم العذراء، وبالنسبة لنا كمسلمين نراها خير نساء العالمين، فالقرآن الكريم سرد قصتها فى سورة كاملة تحمل اسمها، وحكى لنا كيف حملت ابنها عيسى دون أن يمسسها بشر».
تضيف «فاطمة»: «فضلًا عن أنها جديرة بالحب والتقدير، تربطنى بها علاقة مختلفة عن جميع البشر، فقد أهدتنى معجزة وغيرت حياتى»، موضحة: «كنت غير قادرة على الإنجاب لسنوات طويلة، لدرجة أن زوجى فكر فى الزواج بأخرى، فطلبت من جارتى المسيحية أن تصطحبنى معها لكنيسة العذراء لأطلب منها أن يرزقنى الله طفلًا كى لا يطلقنى زوجى».
وتابعت: «بالفعل اصطحبتنى جارتى إلى هنا، كنيسة العذراء المغيثة، ووقفت أمام صورتها أبكى بحرارة لمدة تجاوزت الساعة، وتوسلت إليها أن تطلب من الله أن يرزقنى بطفل، وبالفعل عقب مرور شهرين فوجئت بالحمل أنا وزوجى، ورزقنا الله بطفلة سميناها مريم، ومنذ ذلك الحين تعهدت أمام الله بأن أزور ستنا مريم دائمًا، وأن أُطعم المحتاجين خلال احتفالات صومها».
التقينا بعد ذلك مريم جرجس، ١٧ عامًا، طالبة بالثانوية، قالت: «أتيت إلى الكنيسة لزيارة السيدة العذراء مريم لأننى أحبها وأشعر بأنها أقرب صديقة لى، وأتمنى أن تباركنى وتساعدنى خلال العام الدراسى المقبل، فأنا أدرس بالمرحلة الثانوية وأحلم بأن ألتحق بكلية الطب، لكى أعالج الفقراء وأساعدهم كما تساعدهم العذراء التى تصلى كى يلبى الله دعوات أبنائه».
وأضافت: «أزور الكنيسة بشكل دائم، وحينما أمر بأى أزمة ألجأ للسيدة العذراء، فأنا مؤمنة بأن صلواتها تساعدنى على أن أجتاز التجربة بفرح»، وتابعت: «أحرص أنا وصديقاتى على التطوع بتنظيف الكنيسة وغسل السجاد وتلميع الأيقونات ومسح الأرضية، وهذه الأمور تجعلنى أشعر ببركتها».

أنشئت فوق بئر شرب منها المسيح.. والقمص أنطونيوس حنا: ظلت مقرًا بابويًا لـ139 عامًا
تُعتبر «العذراء المُغيثة» من أشهر الكنائس الأثرية فى مصر، وتحتل مكانة فريدة فى تاريخ الكنيسة القبطية.
وذكر الكاهن الشهير أبوالمكارم، فى كتابه «تاريخ الكنائس والأديرة»، أن العائلة المقدسة بعد أن شربت من بئر البلسان «البلسم» واستراحت تحت الشجرة المعروفة حتى اليوم بـ«شجرة مريم» فى منطقة المطرية، مرت وهى فى طريقها إلى منطقة الفسطاط حاليًا ببئر قديمة وهى المنطقة التى شيدت فيها القاهرة الفاطمية بعد هذه الزيارة بحوالى ألف سنة فى القرن العاشر الميلادى.
وفى هذا الموضع المقدس بالتحديد وفوق تلك البئر، التى شربت العذراء وطفلها من مياهها، بنيت فى مطلع القرن السادس الميلادى كنيسة القديسة العذراء مريم، الشهيرة بـ«المغيثة»، وهو اللقب المدوَّن فى كتاب «القول الإبريزى للعلامة المقريزى» منذ عام ١٤٤١ ميلاديًا، إذ قال مؤلف الكتاب: «كنيسة تعرف بالمغيثة على اسم السيدة العذراء مريم فى حارة الروم».
وحارة الروم هى إحدى الحارات المتفرعة من شارع المعز لدين الله، وهو الخليفة الفاطمى الذى كلف وزيره جوهر الصقلى ببناء عاصمته القاهرة فى عام ٩٦٩ ميلاديًا، وقد سميت حارة الروم بهذا الاسم، لأن الجنود الروم الصقليين التابعين لجوهر الصقلى كانوا قد سكنوا فيها. وكانت الحارة فى أول الأمر خارج أسوار القاهرة الفاطمية بأبوابها الثمانية التى اندثرت جميعها، وحينما تمت إعادة بناء السور صارت حارة الروم تقع داخل حيز المدينة.
وقال القمص أنطونيوس جرجس حنا، راعى كنيسة العذراء المُغيثة وأقدم كهنتها عضو اللجنة البابوية للآثار وترميم الكنائس القديمة منذ ٤٣ عامًا، لـ«الدستور»: «لكنيسة العذراء المُغيثة مكانة كبيرة فى تاريخ الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، إذ إنها ظلت مقرًا بابويًا لمدة ١٣٩ عامًا، منذ عام ١٦٦٠ حتى ١٧٩٩ ميلاديًا، فضمت الكرسى البابوى لـ٧ بطاركة، بداية من البطريرك ١٠٢ إلى البطريرك ١٠٨».
وأوضح أنه فى عام ١٠٤٦ ميلاديًا تم نقل المقر البابوى من الكنيسة المرقسية بالإسكندرية إلى كنيسة السيدة العذراء المعلقة وكنيسة القديس «أبوسيفين» الأثرية بمنطقة مصر القديمة، ثم إلى كنيسة العذراء بحارة زويلة فى عام ١٣٢٠، ومنها إلى كنيسة العذراء المُغيثة.
وكشف عن أن المصريين لقبوا السيدة العذراء بـ«المُغيثة»، لأنها كانت ملجأهم الدائم، حتى إن جميع البطاركة منذ القرن الـ١١ اتخذوا من الكنيسة مقرًا لقضاء خلواتهم الخاصة، ورفع صلواتهم إلى الله وقت المحن والتجارب. ولفت إلى أن الكنيسة قد تعرضت للكثير من الشدائد على مر العصور، فقد هُدمت ثلاث مرات وحُرقت مرتين وأُغلقت لمدة ١١ عامًا، وذلك فى أعقاب الاضطرابات والفتن التى سادت البلاد فى زمن خلافة الحاكم بأمر الله الفاطمى، من عام ٩٩٦ لـ١٠٢٠ ميلاديًا، وعصر السلطان محمد بن قلاوون من عام ١٢٩٣ لـ١٣٤٠، وكان آخرها الحريق الهائل الذى التهم الكنيسة وأدى إلى تهدمها فى أثناء دخول الحملة الفرنسية إلى مصر، فى عام ١٧٩٩، لينتقل عقب ذلك الكرسى البابوى إلى الكنيسة المرقسية بالأزبكية، ثم أحرقت مرة أخرى فى ليلة عيد القيامة عام ١٨٠٧ ميلاديًا فى عهد محمد على باشا.

أعمدة حجرية ضخمة.. وفتحات ونوافذ لتوفير الإضاءة والتهوية المناسبة

من بين مميزات كنيسة «المغيثة» تصميمها المعمارى الفريد، الذى يضفى عليها جلالًا يضيف إلى جلالها، فضلًا عن وقوعها فى قلب القاهرة الفاطمية ما يزيد المشهد جمالًا.
بمجرد دخول حارة الروم من جهة شارع المعز لدين الله الفاطمى، تجد نفسك وكأنك قد انتقلت بالزمن إلى العصور القديمة، فترى المنازل مزينة بالمشربيات الأرابيسك والحوائط العتيقة، ومن بينها الأزقة والرُدهات بمساراتها الملتوية، ومن حولها الأسبلة الأثرية ومقامات الأولياء، وكنيسة الروم المهجورة، التى كانت مقرًا لبطريركية الروم الأرثوذكس قبل أن ينتقل إلى الحمزاوى بشارع الأزهر.
وفى آخر حارة الروم تقع كنيسة السيدة العذراء مريم المُغيثة، ويليها دير الأمير تادرس للراهبات.
وبمجرد دخول الكنيسة من البوابة الخارجية تجد لافتتين، إحداهما باسم كنيسة العذراء المُغيثة، والأخرى باسم القديس مار جرجس، حيث توجد كنيستان صغيرتان ملحقتان بكنيسة العذراء، وهما كنيسة القديس مار جرجس، وبها ثلاثة مذابح، والأخرى كنيسة الأمير تادرس الشطبى وبها مذبحان.
وعند رؤية صحن الكنيسة تشعر بهيبة وروعة وقُدسية المكان، وكأنك فى متحف يحوى كنوزًا وآثارًا فريدة من نوعها، إذ تتميز الكنيسة بأعمدتها الحجرية الضخمة، وإذا نظرت إلى الأعلى سترى من الداخل الـ١٢ قُبة المشيدة أعلى السقف وبها فتحات ونوافذ لتوفير الإضاءة والتهوية المناسبة داخل الكنيسة، نظرًا لأنه لا توجد فتحات أو شبابيك جانبية بحوائط الكنيسة.
ويوجد بصحن الكنيسة أيضًا أمام الهيكل الأوسط صليب ضخم بالحجم الطبيعى، يرتكز على عوارض خشبية، ومزخرف بنقوش نباتية، ويحمل الصليب على وجهه الأمامى الذى يشاهده الناظرون إلى الهيكل أيقونة لصلب السيد المسيح، وعلى وجهه الخلفى أيقونة لقيامة السيد المسيح يشاهدها الخارجون من الهيكل، وكأن المتقدمين للتناول من الأسرار المقدسة وقت القداس الإلهى، يُصلبون مع السيد المسيح ثم يقومون معه بحسب العقيدة المسيحية، ويوجد أسفل الصليب الكرسى البابوى، والمنبر بسلمه الخشبى الحلزونى.
وتضم الكنيسة ثلاثة مذابح الأول فى الهيكل الأوسط على اسم السيدة العذراء مريم المُغيثة، والثانى فى الهيكل البحرى «الشمالى» على اسم الشهيدة مارينا، والثالث فى الهيكل القبلى «الجنوبى» على اسم الأحياء الأربعة غير المتجسدين، المذكورين فى سفر الرؤيا.
وأمام الهيكل الأوسط فيوجد حامل الأيقونات بديع الصُنع من الخشب ومُطعّم بالعاج والأبنوس، وقد تم صنعه فى عام ١٨٠٠ بأسيوط، ونُقل إلى المُغيثة بعد حرقها فى عام ١٨٠٧ ميلاديًا.
وتجد على حوائط الجناحين الشمالى والجنوبى حول صحن الكنيسة، أيقونات أثرية نادرة قام برسم الكثير منها الفنان أنسطاسى الرومى الذى يظهر توقيعه أعلى الأيقونات التى رسمها.
وفى الجهة الغربية للكنيسة توجد مقصورة فخمة كبيرة مثبت عليها ثلاث أيقونات للقديسة العذراء مريم فى الوسط وللشهيدة مارينا والملاك غبريال على الجانبين.
وخارج صحن الكنيسة يوجد عند المدخل باب يؤدى إلى مزار للشهيدة مارينا، وبداخله البئر القديمة التى شربت منها العائلة المقدسة، بالمزار ترى عددًا من الكراسى المتحركة والعكازات، التى تركها من كانوا يعانون من أمراض مختلفة وشفاهم الله بصلوات العذراء والشهيدة مارينا.