رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الصحف القومية.. مرة ثانية


كالمريض فى غرفة الإنعاش، هذا هو حال الصحف القومية الآن، تحتاج إخصائياً خبيراً، يحدد داءها، ويصف أدواءها الناجعة، لتفيق من غيبوبتها قبل أن تفارق الحياة وتموت!

هذا ليس تشاؤماً من مراقب خارجى يسمع تهويمات عن أوضاع المؤسسات الصحفية القومية، ولكنها رؤية من داخل المطبخ الذى عكفنا فيه سنين طويلة، دمعت خلالها أعيننا من أبخرة أبصاله، وجُرِحت أيدينا من نصال تفاصيله اليومية، لنلحق فى المساء بتقديم وجبة القارئ التى ينتظرها، صحف تُخرجها مطابع، لا يعلم كم عانى العاملون فيها من أجل خروجها على موعدها، وكم كلفتهم من جهد ومال لم تعد مُدخلات المؤسسات بقادرة على الاستمرار فى إنفاقه، وقد قاربت مواردها على الجفاف التام إن لم نُعطها قبلة الحياة، فى الوقت المناسب ودون إبطاء.

المؤسسات القومية مثقلة بالديون، بعضها حكومى، والآخر للبنوك والقطاع الخاص، بعضها يمكن التفاهم حوله، والآخر حتمى الدفع، وإلا.. فإلى عام 2006 تراكمت على هذه المؤسسات ضرائب باهظة، بلغت فى إحداها، وهو الرقم الوسيط بين المؤسسات، انخاضاً وارتفاعاً، 701 مليون جنيه، نتيجة لعهد وافق فيه الرئيس الأسبق، شفاهة، لرؤساء مجالس إدارات هذه المؤسسات على عدم سدادهم لهذه الضرائب، ولكن وزير المالية آنذاك يوسف بطرس غالى لم يقنن تلك الموافقة بقرار يحمى الصحف من غائلة المطالبة بها مستقبلاً، بل جعلها ضرائب معلقة، جاء وزير مالية الإخوان عام 2012 ليطالب بها، مع ما تراكم من ضرائب جديدة، ووجد تحت يديه وسيلة للدفع الإجبارى، مستحقات الصحف القومية لدى وزارة التربية والتعليم، فراح يخصم 50% من قيمة كل فاتورة مستحقة لأى مؤسسة صحفية عن طباعتها لمجموعة من الكتب المدرسية العام الماضى، وهى خصومات بالملايين، أربكت هذه المؤسسات ودفعت نحو الدخول فى غرامات تأخير مع الوزارة نتيجة شُح الموارد، بالتزامن مع مواعيد تسليم الكتب، وهى خطوة كانت مقصودة من حكومة الإخوان لتركيع المؤسسات الصحفية، وخاصة الصحفيين الشرفاء.. أقول «الصحفيين الشرفاء»، حتى إنى كتبت وقتها مقالاً فى الجمهورية تحت عنوان «يا وزير المالية.. هذه ضرائبك رُدت إليك».. أشرت فيه إلى أن الانحياز الأعمى الذى وقع فيه رؤساء تحرير هذه الصحف تجاه الأنظمة الحاكمة، حتى فى عهد الإخوان، إلا نفر قليل فى الأخبار وروز اليوسف ورئيس تحرير الأهرام المسائى، تمسكوا العام الماضى بوطنيتهم.. هذا الانحياز وصم الصحف القومية فى نظر كل المجتمع، بالعمالة والكذب، ومن ثم انصرف القارئ عنها إلى مدى بعيد، ومن يراجع كميات توزيع الصحف يرصد هذا التراجع، دون أن تتحمل الحكومة دفع ثمن هذا الانحياز المخل، رغم أنى لا أوافق عليه!.

هذا الانحياز الواضح، جعل القارئ ينصرف عن الصحف القومية، ومن ثم انصرف المعلن عن صفحاتها، إذ كيف يأتى الإعلان إلى صحيفة بلا قارئ.. كما نال بروز دور الصحف المستقلة والفضائيات الجديدة من كعكة الإعلانات وجارَ على نسبة الصحف القومية منها، فتراجعت الموارد المالية، وتعاظمت الأجور مع الزيادات السنوية فى مرتب الفرد العامل داخل هذه المؤسسات، وبالتالى زادت أعباؤها من الضرائب والمستحق كتأمينات ومتأخرات الرعاية الصحية للعاملين فى المستشفيات التى تهدد الآن بعدم استقبال أية حالة مرضية من العاملين فى بعض هذه الصحف.

لقد وصل الحال فى هذا البعض من الصحف إلى الانكباب على توفير المرتبات الشهرية، دونما النظر لخامات الإنتاج اليومى للصحف، ولا لأعمال الصيانة الدورية لماكينات الطباعة ولا قطع الغيار المطلوبة لها، ولا حتى الالتفات إلى فواتير الكهرباء والغاز والمياه المستحقة عن استهلاكاتها، ولا وجود الوقت والعقل الذى يفكر فى التطوير والتنمية.. بل إن الميراث الصعب فى هذا البعض من الصحف وصل إلى درجة اللا معقول، بالمطالبات المستمرة من العاملين فيها بالحصول على المنح والحوافز المستقرة فى عُرف هذه المؤسسات منذ أيام الرخاء أو بالأصح «تكبير الدماغ» مع مصلحة الضرائب وهيئة التأمينات، دونما النظر إلى تغير الظروف وسوء الأحوال، للدرجة التى باتت تهدد مستقبل بعض هذه المؤسسات، مثلما تعرضت له «دار الهلال» مؤخراً.

قلق العاملين بالصحف القومية الآن بلغ مداه، ينتظر ما ستسفر عنه الأيام القادمة، من طبيعة النظرة لمؤسساتهم، وهل هناك نية حقيقية لإصلاح مساراتها وإقالة عثرتها، أم ستُترك نهباً للأمواج التى تتقاذفها، فترسلها، جميعاً أو بعضاً منها، إلى جوف المحيط.. وهم معذورون فى هذا القلق، فمجلس الشورى غير المأسوف عليه، ومعه المجلس الأعلى للصحافة السابق، اتخذا من الإجراءات، ووضعا من رؤساء التحرير والقيادات ما أشتم منه الرغبة الأكيدة فى الانتقام من هذه المؤسسات على سابق انحيازها للدولة فى مواجهة الإخوان.. انقادت بعض هذه القيادات للمؤامرة وانحاز البعض الآخر لضميره الوطنى، فعمل بجد وإخلاص من أجل استمرار هذه المؤسسة أو تلك على قيد الحياة.. لذا فلا يمكن أن يكون جزاء هذا البعض الآخر مثل جزاء سنمار، انحازوا إلى مصالح الوطن، وصالح مؤسسات يعمل فى كل منها عشرات الآلاف من البشر، يفتحون مئات الآلاف من البيوت.. يرحمكم الله.

هذا البريد محمى من المتطفلين. تحتاج إلى تشغيل الجافا سكريبت لمشاهدته.