رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

احذروا الخطايا السلبية


يخطئ من يظن أن الخطايا هى فقط ما نفعله بإرادة حرة ويقصد بها الإضرار بالغير وننسى أو تناسى ما نرتكبه ضد أنفسنا وما لا نفعله من خير للآخرين ولأنفسنا أيضاً، فالطبيب الذى لا يسارع بإسعاف المريض سواء بقصد أو بدون قصد فهو قاتل بالترك أو بالإهمال، والأم

التى تترك رضيعها دون إرضاع حتى الموت فهى مرتكبة لجريمة قتل عمدى، والجندى الذى يترك موقعه فهو مرتكب جريمة الخيانة إذا كان فى صفوف القتال أو الإهمال فى أداء عمله ويتحمل نتائج هذا الإهمال.

والقاضى الذى يتعمد التسويف أو يتعمد عدم إنصاف المظلوم فهو كالطبيب الذى يترك مريضه دون دواء، والمعلم الذى لا يؤدى واجبه لتلاميذه حتى لو واظب على الحضور والانصراف فى المواعيد المحددة ودخول الفصول فى أوقاتها وقضى الوقت فى الحديث عن نفسه وبطولاته، أما واجبه العلمى وتقديمه للدرس فلم يقم به فهو يشبه العامل الذى يواظب على الحضور دون أن يؤدى عملاً.. كل هذه الأخطاء تقود إلى المحاسبة والعقاب.

وهناك قصة شهيرة لحادث خطير لقطار سقط بركابه فى النهر وأُخذ عامل البلوك للتحقيق وسأله القاضى ما إذا كان فى الموقع وما إذا شاهد القطار القادم وما إذا كان المصباح فى يده لإرشاد سائق القطار، وأجاب عن كل الأسئلة بالإيجاب، وعندما عاد إلى بيته سعيداً لعدم إدانته وسألته زوجته لماذا كنت مرعوباً من التحقيقات قال «آه لو سألنى القاضى إذا ما كان المصباح به زيت للإنارة من عدمه» فكان الخطر كله فى هذا السؤال، إذ إن المصباح لم يكن مضاءً لأنه كان خالياً من الزيت! ومن هذا الحدث ومسئولية عامل المزلقان ندرك أن هناك الكثير من الخطايا السلبية لا تقل فى خطورتها عن الخطايا التى ترتكب ضد المجتمع والناس.

ومن الخطايا الجسيمة تلك التى يأتيها الداعون للتقوى فيلبسون جلود الحملان وهم فى حقيقة أفعالهم ذئاب خاطفة قيل عنهم إن لهم صورة التقوى ولكن أفعالهم تثبت أن الصورة تخالف الحقيقة حتى إن أحمد شوقى قال فيهم ما يدلل به على كشف الحقيقة فقال فيهم هذه الأبيات:

وقف الثعلب يوماً فى ثياب الواعظينا / فمشى فى الأرض يهذى ويسب الماكرينا

ويقول: الحمد لله إله العالمينا / يا عباد الله توبوا فهو كهف التائبينا

وازهدوا فى الطير إن العيش عيش الزاهدينا / واطلبوا الديك يؤذن لصلاة الصبح فينا

فأتى الديك رسول من إمام الناسكينا / عرض الأمر عليه وهو يرجو أن يلينا

فأجاب الديك: عذراً يا أضل المهتدينا / بلَّغ الثعلب عنى عن جدودى الصالحينا

إنهم قالوا وخير القول قول العارفينا / مخطئ من ظن يوماً أن للثعلب دينا

كما أن هناك حكمة تقول: الفتنة إذا أقبلت عرفها العقلاء وإذا أدبرت عرفها الجهلاء، كما يقال فى الأمثال إن لكل فتنة منظرين ومنظمين ومخدوعين.

حمانا الله من المنظرين والمنظمين للفتن أما المخدوعون فهم لأنفسهم يظلمون وعلى كل العقلاء أن يمدوا يد العون لهؤلاء الذين خدعهم أصحاب الأجندات الخفية والشعارات البراقة وهم يلبسون جلود الحملان، ومن تحتها حناجر وخناجر وفى ابتساماتهم الغدر والخيانة.

أعود إلى مفهوم الخطايا السلبية والتى نظن أنها ليست من الذنوب لأن الذنب كما يراه البعض هو ما نقترفه بإرادتنا الكاملة وهم بذلك يتبرأون من الذنوب التى يقترفونها، مثلاً إذا ما كانوا تحت تأثير المخدرات والمسكرات باعتبار أنهم لم يكونوا فى كامل الوعى والإدراك، وينسون أنهم يتناولون المخدر أو المسكر بإرادتهم وكان فى مقدورهم ألا يتعاطونه.

كما أن الخطايا الفعلية والجرائم التى ترتكب لا تنشأ عادة دون تفكير مسبق وإعداد شبه محكم حتى إن هناك نسبة مرتفعة من الأعمال الإجرامية التى يقوم بها محترفون ولا تستطيع جهات الضبط والتحقيق أن تتوصل إلى فاعليها لإحكام الترتيب والإتقان والتمويه، فأول جرائم القتل فى التاريخ البشرى بين أخوين ولم يكن حولهما شهود، فنقرأ فى سفر التكوين كيف أن الله يحذر قايين أن فكرة القتل كامنة فى النفس وأنه ينوى القيام بهذه الجريمة، وأنه يشتاق إلى القيام بها، كما أن الخطايا السلبية تبدأ من النظرة فحواء نظرت للشجرة وعليها الثمرة فرأتها ثمرة جيدة فى المنظر والشكل الخارجى وأنها شهية فمع أنها لم تكن قد ذاقتها من قبل ولا تعرف مقدماً ما إذا كانت حلوة فى طعمها إلا أنها ممنوعة من أن تأكل منها فلم تكن كل أشجار الجنة كافية ومشبعة فقادتها غريزة الحصول على ما ليس متاحاً.

وقد تكون بعض هذه الخطايا السلبية لا تقع تحت طائلة قانون العقوبات لكنها تقود إلى خطايا أخرى فالكراهية مثلاً قد تكون مجرد عدم الراحة إلى شىء أو شخص أو عدم الراحة فى اتجاه إنسان بالامتناع عن مساعدة محتاج رغم القدرة على ذلك، لا توجد نصوص فى قانون العقوبات تدين إنساناً لم يقدم خدمة أو لم يمد يداً بالعطاء لمحتاج وكل ما يقال عن عمل كهذا إنه من البخل ولكن المتأمل فى مثل هذا الفعل يدرك أن البخيل أو ناكر الجميل لا يخطئ فقط إلى غيره كالفقير أو المحتاج وإنما يسىء إلى نفسه، إذ إنه يفقد بهجة إسعاد الآخرين ومتعة سداد أعواز غير القادرين.

والدارس للعلوم الجنائية وتطور الجرائم لدى الكبار يستطيع أن يربط بين الخطايا السلبية بالامتناع عن أعمال الرحمة والخير وكيف تحولت الخطايا السلبية إلى أعمال إجرامية إذ لم يوجد من يوجه الطفل الصغير الذى كبر وكبرت معه الأفعال الإجرامية.

ليتنا نبدأ مع أطفالنا قبل أن يتعلموا الكلام أن يسمعوا أجمله وأحلاه وقبل أن يدركوا الفرق بين الخير والشر أن يروا قدوتهم الحسنة فى الكلام والأفعال فالمجتمع محتاج لتغيير جذرى فى بنيته الأساسية وليس فى الطلاء الخارجى.

إنها رسالة الأسرة والمدرسة والمؤسسات الدينية والأندية الرياضية والاجتماعية والبرامج الإذاعية والإعلامية فما لم تتغير برامجنا الإذاعية للأطفال ومناهجنا التعليمية وأنشطتنا التربوية وطرق تقديم الوعظ والثقافة الدينية لن تتغير الخرائط الإجرامية والأفعال غير الأخلاقية فلننظر الخطايا السلبية التى تقود حتماً إلى ما هو أخطر.

وأختم بقول المتنبى:

إذا رأيت نيوب الليث بارزة / فلا تظن أن الليث يبتسم