رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

100 سنة سادات «10».. ساهمت بكل قوة فى ثورة ٢٣ يوليو.. «خروجة سينما» منعتنى من المشاركة فى اللحظة الأولى.. وكنت أسعد إنسان بقراءة بيانها

سادات
سادات

لم يكن دورى فى التمهيد لقيام ثورة يوليو قاصرًا على إسداء النصح لعبدالناصر كلما أمكن ذلك أو على مساندته فى مواقفه المختلفة من الصراعات القائمة فى الهيئة التأسيسية أو على توزيع منشورات الضباط الأحرار فى المناطق المخصصة لى، فقد كانت الأحداث تسير بسرعة مذهلة.. وكان على أن ألحق بركب الأحداث وأن أكيف نفسى وفقًا لطبيعتها..
ففى أكتوبر عام ١٩٥١ ألغى النحاس باشا المعاهدة المبرمة بين مصر وإنجلترا عام ١٩٣٦. وبدأت حركات الفدائيين والإخوان المسلمين فى القنال واشتركت فيها بالتدريب وبالإمداد بالسلاح والذخيرة وأصبح الجو العام يبشر بأن الهدف الذى كنا نعمل من أجله لم يعد بعيدًا، فاجتمعت الهيئة التأسيسية للضباط الأحرار فى أوائل يناير ١٩٥٢ وقررنا قيام الثورة فى نوفمبر عام ١٩٥٥.. ولكن ما هى إلا أيام قليلة حتى فوجئنا بحريق القاهرة فى ٢٦ يناير ١٩٥٢.
لم يعرف حتى الآن من الذى دبر حريق القاهرة، ولكن الهدف كان واضحًا لدى الجميع. فمما لاشك فيه أن حريق القاهرة كان موجهًا ضد الملك، كما كان تعبيرًا عنيفًا عما يلاقيه أكثر من ٩٥٪ من الشعب، وهى القاعدة العريضة التى حرمت فى ظل نظام طبقى رأسمالى صارخ من كل شىء، وأصبحت الأحزاب السياسية هى الأخرى أداة فى يد الملك والإنجليز وأصبح كل همها أن تتحالف مرة مع الإنجليز ومرة مع الملك لكى تحقق لنفسها المكاسب على حساب الشعب.
وكان حريق القاهرة هو جرس الإنذار قبل ثورة دموية لو أنها قامت لهدمت وأحرقت كل شىء، ورغم أن الفاعل كان مجهولا إلا أن الهدف قد أصاب فأضعف من مركز الملك.
فى ضوء هذا الحدث الأخير كان علينا أن نراجع حساباتنا وأن نعرف أين نقف بالضبط - وهنا تذكرت يوسف رشاد الذى أصبح طبيب الملك الخاص.. وصلة الصداقة التى تربطنى به.. لقد آن الأوان لكى أستخدم هذه الصلة لمصلحة القضية التى نعمل من أجلها.. واتصلت بيوسف رشاد وكان فى ذلك الوقت صديقًا شخصيًا للملك، كما كان على رأس جهاز المعلومات الخاص بالسراى.
وجدت يوسف رشاد يأخذ كل ما أقوله له أمرًا مسلمًا به.. فلا جدال ولا مناقشة ولا شك من أى نوع.. الطريق مفتوح إذن لتضليل الملك وتخديره حتى يقوم تنظيمنا بالثورة.
والحقيقة أن هذا هو ما فعلت.. فكنت أقدم له معلومات خاطئة.. وعندما كان يعرض على منشورات الضباط الأحرار، كنت أوهمه بأنها من صنع خيال ضابط معروف بحب التظاهر والعظمة ولكنه فى الحقيقة لا حول له ولا طول.. وعندما كانت تصل إليه بعض الحقائق كنت أعمل جاهدًا على تصويرها فى عينيه على أنها أكاذيب ومبالغات لا نصيب لها من الصحة.
ولم يكن هذا كل دأبى.. فقد كنت دائم السعى للتحايل للتعرف على أخبار الملك وخططه ونواياه.. ونجحت إلى حد كبير فى تحقيق هدفى، فبعد حريق القاهرة بأيام عرفت من يوسف رشاد أن الملك بات يشعر بأنه لم يعد له مكان فى مصر.. بل وأعد قائمة بأسماء من سيصاحبونه فى المنفى، ومن بينهم يوسف رشاد طبعًا.. كما أنه بدأ يرسل الذهب فى طائرته الخاصة إلى بنوك جنيف، الأمر الذى جعلنى أنا وعبدالناصر نقتنع بأن حركة الضباط الأحرار لن تجد مقاومة تذكر من جانب الملك.. فقد كان واضحًا أنه قد بدأ ينهار فعلا، وبناء عليه جمعنا الهيئة التأسيسية فى فبراير ١٩٥٢ وقررنا قيام الثورة فى نوفمبر ١٩٥٢ بدلا من نوفمبر ١٩٥٥.. لماذا نوفمبر؟.
لأنه فى نوفمبر يكون الملك والحكومة قد عادا من الإسكندرية وبذلك نستطيع تركيز ضربتنا فى القاهرة..
باستثناء عبدالناصر لم يكن أحد يعلم باتصالاتى بيوسف رشاد، الذى ظل سلاحا من أهم أسلحة معركتنا.. ولم نتوقف عن استخدامه إلى أن بلغنا هدفنا بالكامل.. أذكر أنه فى أول يوليو ١٩٥٢، كنت أقضى إجازتى الشهرية بالقاهرة، وفى حديث لى مع عبدالناصر طرأت له فكرة استطلاع أخبار الملك فركبت عربتى الفوكسهول وتوجهت إلى الإسكندرية حيث التقيت بيوسف رشاد فى نادى السيارات بسيدى بشر، وعلمت منه أن الملك قلق لزيادة منشورات الضباط الأحرار.. طمأنت باله ونسبت المنشورات كما اعتدت أن أفعل إلى أحد الضباط الذى كان مولعا بالتظاهر وإيهام الناس بأنه مهم.. وكنت قد ابتكرت بعض المعلومات الخاطئة المضللة.. فحكيتها ليوسف رشاد وبعد أن أطمأن بالى إلى أنه نقلها إلى الملك.. ركبت عربتى وتوجهت إلى القاهرة حيث أطلعت عبدالناصر على نتائج رحلتى، وكانت إجازتى قد انتهت فعدت إلى مقر عملى فى رفح.
فوجئنا بعد ذلك فى ١٨ يوليو بالملك يصدر أمرا بالغاء انتخابات مجلس إدارة نادى الضباط، وهى التى كان التنظيم قد كسبها من الضباط الموالين للسراى.. الملك قد بدأ يسترد أنفاسه إذن.. بل ويتحدى.. وفى نفس الوقت أبلغ أحمد أبوالفتح «الصحفى الوفدى» جمال عبدالناصر - وكان صديقا شخصيا له- بأن الملك يعتزم تغيير الوزارة وأن وزير الحربية فى الوزارة الجديدة هو اللواء حسين سرى عامر، الذى يعرف الكثير عن الضباط الأحرار، والذى سوف يكون أول ما يفعله بالتأكيد هو أن يقضى عليهم ويجهض كل مشروعاتهم بمجرد توليه الوزارة لكى يثبت للملك قوته وولاءه.
وبتحليل بسيط وصل عبدالناصر إلى حقيقة تفرض نفسها علينا وعلى مستقبل الثورة والبلاد.. إما نحن وإما حسين سرى عامر الوزير القادم، والذى يعرف الكثير عنا بل ونحن أغلب أعضاء الهيئة التأسيسية الذين تحولوا فيما بعد إلى مجلس قيادة الثورة.
ولم يتردد عبدالناصر.
فقد اتخذ قرار قيام الثورة قبل تولى هذا الوزير لمهام منصبه وقبل أن يفلت زمام المبادأة.
وكان معنى هذا أن تقوم الثورة فى يوليو بدلا من نوفمبر ٥٢.
وفى يوم ٢١ يوليو ١٩٥٢ أرسل عبدالناصر رسالة لى مع حسن إبراهيم تسلمتها فى مطار العريش يطلب منى فيها أن أنزل إلى القاهرة يوم ٢٢ يوليو لأن الثورة قد تحدد لقيامها ما بين ٢٢ يوليو و٥ أغسطس.. وفعلا وصلت القاهرة يوم ٢٢ يوليو.. ولكنى لم أجد عبدالناصر فى انتظارى على محطة السكة الحديد كعادته فقلت فى نفسى لابد أن الوقت لم يحن بعد.. ولذلك توجهت إلى بيتى واصطحبت زوجتى إلى السينما، ولكنى عندما عدت إلى البيت فى منتصف الليل وجدت بطاقة من عبدالناصر يطلب منى فيها أن أقابله فى منزل عبدالحكيم عامر الساعة ١١ مساء.. وعلمت من البواب الذى سلمنى هذه البطاقة أن عبدالناصر قبل أن يترك البطاقة أتى إلى بيتى مرتين.. مرة فى الساعة الثالثة مساء ومرة أخرى فى العاشرة.
غيرت ملابسى وأخذت مسدسى معى وتوجهت إلى منزل عامر، وطبعا لم أجده فذهبت إلى ثكنات الجيش فى العباسية.. لم أكن أعرف كلمة السر بطبيعة الحال فمنعونى من الدخول وعندما تبينوا رتبتى طلبوا منى أن ألزم بيتى.. فهذه هى الأوامر بالنسبة للضباط العظام.. ناورت وحاولت كثيرا ولكن دون فائدة - كدت أجن فكيف تقوم الثورة أمام عينى وأنا لا أشارك فيها؟ لقد كرست كل حياتى لهذه اللحظة بالذات.. من أجلها كافحت وعانيت بل وكنت.. فى كل مرحلة من مراحل العمر.. ففيم كان كفاحى وفيم كان كيانى.. وأنا أقف موقف المتفرج مما أعطى لهذا الكيان مبررا لوجوده؟ ناورت وحاولت مرة أخرى وعدة مرات إلى أن التقيت بعبدالحكيم عامر، وهو ينظم مرور القوات.. ناديت عليه.. لم يكن فى موقف يستطيع فيه أن يرانى، ولكنه تعرف على صوتى.. عرفت منه أن القيادة قد سقطت إذ اقتحمتها قواتنا القادة من معسكر «هاكستب» ومعسكر «هاكستب» كان معسكرا أمريكيا أثناء الحرب العالمية الثانية، وسمى على اسم أحد الأمريكيين، وعلى رأسها عامر ويوسف صديق، وأن رئيس الأركان حسين فريد قد حددت إقامته، أما بقية القادة فكان عامر يقودهم إلى المعتقل فى مقر الكلية الحربية حينذاك.
أخذت عربتى وتوجهت إلى رئاسة الجيش، حيث كان عبدالناصر، الذى طلب منى أن أتصل تليفونيا بجميع وحداتنا لأرى إذا كان كل شىء يسير حسب الخطة الموضوعة.. نزلت إلى حجرة التليفونات بالطابق الأرضى.. ولكنى وجدتها خالية.. ناديت على العساكر عدة مرات، ولكن لم يظهر منهم أحد.. ألححت فى النداء ورحت أطمئنهم فظهروا الواحد بعد الآخر وبعد أن تعرفوا على وهدأت نفوسهم عادوا إلى عملهم تحت إشرافى وبدأنا التتميم على جميع وحدات الجيش فى سيناء والصحراء الغربية والإسكندرية والقنطرة شرق والعريش ورفح.
وحدث أن اتصل بنا حيدر باشا، وزير الحربية، فى ذلك الوقت، يطلب توصيله بالضابط النوبتجى فأوصلته بعبدالناصر.. لم أسمع المكالمة.. ولكنى عرفت أنه لعب دور الضابط النوبتجى وقال لحيدر باشا، ردا على تساؤلاته إنه لا توجد أية تحركات فى الجيش وإن كل شىء على ما يرام.. بعد قليل اتصل حيدر باشا بنا مرة أخرى، وطلب توصيله بسلاح المدرعات «السوارى»، فأصدرت أمرى إلى العساكر بإهماله.
فى الساعة الثالثة صباحا أتت جميع التمامات من جميع الوحدات، فأبلغنا عبدالناصر والزملاء أعضاء مجلس قيادة الثورة.. وفى الحال اتصل عبدالناصر تليفونيا باللواء محمد نجيب فى بيته بحلمية الزيتون وأرسل عربة مدرعة أتت به إلينا فى الفجر..
فى شرفة القيادة ونسيم الصيف الرقيق يلفح وجهى.. وقفت أتأمل الشارع الفسيح الطويل الممتد بامتداد ثكنات الجيش وقواتنا تتدفق إليه من مصر الجديدة ومنشية البكرى وتتجه إلى قلب القاهرة.. المدفعية - والمشاة - والدبابات.
كل شىء هادئ فى ساعات الصباح المبكر، ولكن الثورة قد بدأت..
أخيرا تحقق الحلم الذى عشت به وله سنوات عمرى.. تحول إلى حقيقة.. يزخر بها صدرى.. تستولى على كيانى.. فيتضاءل إلى جانبها هذا الكيان..
كل شىء فى الواقع يتضاءل.. يصبح وهما.. إلا هى.. الحقيقة الوحيدة.. شامخة مهيبة تحجب الرؤية عن كل ما عداها..
هكذا كانت فرحتى بها.. أكبر وأجمل من أن أتحملها وحدى.. ولذلك ما أن طلع صباح ٢٣ يوليو ١٩٥٢ حتى هرعت إلى الإذاعة أعلن ميلاد الثورة ليشاركنى الناس ما أنا فيه من سعادة..