رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الأعمدة السبعة.. حكاية أشهر كتاب يتحدث عن هوية مصر

الدكتور ميلاد حنا
الدكتور ميلاد حنا

يعد كتاب الأعمدة السبعة للشخصية المصرية هو العمل الأهم في ميراث المفكر المصري القدير الدكتور ميلاد حنا الذي تحل ذكرى ميلاده في هذا اليوم وهو للعلم مولود في سنة 1924، وميلاد حنا هو أستاذ الهندسة الإنشائية الذي جمع الكتابة والبحث إلى جوار حقله العلمي فجاءت أعماله الفذة لتعبر عن كاتب موهوب واسع الاضطلاع ومتعدد الاهتمامات وهو أحد أكبر مفكري السياسة في مصر ومنظريها وأحد أشهر الوجوه التي شملها قرار الاعتقال في سبتمبر عام 1981.

وكتابة الأعمدة السبعة في غنى عن التعريف بالنسبة إلى نخبة المثقفين فأكثرهم قاموا بقراءته واستيعابه وآمنوا بأفكاره وكانت كتاباتهم في هذا المضمار هي إعادة كتابة للمفاهيم التي بثها ميلاد حنا الذي اعتبره مثقفونا واحدًا من أفضل من تحدثوا عن الهوية المصرية وربما كان هو الأفضل بالفعل، فما هي قصة الأعمدة السبعة كما يراها ميلاد حنا؟

لقد ألف ميلاد حنا هذا الكتاب الجليل والصغير نسبيا بالمقارنة مع الموسوعة الكبرى التي سطرها جمال حمدان "شخصية مصر" والتي أفرد بعض صفحاتها للحديث عن الهوية المصرية بعد أن تأمل في التاريخ ليجد أن مصر التي هي أقدم دولة مركزية ذات حدود ثابتة على مستوى العالم قد تعرضت لأكبر كمية من الغزوات على مدار تاريخها الممتد الذي يبدأ على وجه التحديد عام 3200 قبل الميلاد.

وفي هذا العام الذي لا ينمحي من ذاكرة كل مهتم بتاريخنا الحافل والعريق وحد الملك "مينا نارمر" قطري مصر الوجه البحري والقبلي لتبدأ أقدم حضارة عرفها التاريخ، وبعد انقضاء عهد الفراعنة وفد إلى مصر أبناء الجنس اليوناني ثم الرومان وفي عهدهم ولد السيد المسيح عليه السلام وفي القرن الميلادي الأول وفد إلينا الحواري مرقس الرسول ليكرز بالإنجيل ويعمد الناس بالروح القدس والكرازة حسب الاصطلاح المسيحي هي التبشير وبعد استجابة المصريين للدين الجديد بدأت الحقبة القبطية وامتدت حتى دخول الغالبية في الإسلام لتبدأ مرحلة جديدة ومختلفة بعض الشيء لكنها لا تنفصل عن الفترة القبطية بل تتفاعل معها لتكون شخصية الإنسان المصري الحديث التي تخلقت من عدة رقائق حضارية كما بين ذلك ميلاد حنا.

فالإنسان المصري الحديث هو عربي من حيث اللغة والثقافة وفي نفس الآن لا يستطيع أن يزيح من أعماقه تراثه الفرعوني ثم التأثيرات اليونانية التي فرضت نفسها على تاريخه وثقافته ثم التاريخ القبطي الذي ترك فيه المصريون بصمتهم حيث قاموا بكتابة قانون الإيمان ورسموا ملامح العقيدة المسيحية وكونوا كنيستهم التي تعد من أكبر وأعرق وأهم الكنائس على مستوى العالم وهم الذين أسسوا الرهبنة، وبعد دخول الإسلام تغيرت اللغة واكتسبت مصر ثقافة جديدة حددت هويتها الأخيرة فهي بلد عربي وفي الوقت ذاته تعد إحدى أكبر الدول في العالم الإسلامي.

ويؤكد ميلاد حنا أن كل هذه الطبقات الحضارية التي بدأت مع الفراعنة وانتهت بالإسلام هي التي تكون ملامح المصري الحديث بحيث لا يمكن اختزال هويتنا في مرحلة معينة ولا يمكن الحديث عن عروبة مصر وإسلامها بمعزل عما سبق ذلك من حضارة فرعونية وتاريخ يوناني وثقافة قبطية، ولأنه عاش في الإسكندرية في إحدى فترات شبابه الباكر أدرك حنا أن لمصر علاقة جوهرية بدول البحر المتوسط التي تجمعها حزمة من السمات والمفاهيم بحيث يمكن القول أن كل من الإيطالي والمصري واليوناني يتجمعون في باقة من الصفات المشتركة وهي ما يمكن تسميتها بثقافة البحر المتوسط.

ولما كان حنا من ذوي البشرة الداكنة وتجمعه علاقاتٍ ودودة مع مجموعة من السودانيين ولما كان يدرك أيضًا خطورة وأهمية البعد الأفريقي الذي لا يمكن تهميشه فقد تكلم بحرارة عن "العمود الإفريقي" باعتباره أحد أعمدته السبعة وهو مستقبل مصر الذي يحسن بها أن توليه القدر الكافي من الاهتمام والنظر وتحاول أن تخطط لعلاقتها مع محيطها الإفريقي.

إذن وباختصار تتحدد الأعمدة المصرية عند ميلاد حنا كما ذكرها وأثبتها في كتابه في سبعة مكونات أربع منها تاريخية وثلاث ينتمين إلى عالم الجغرافيا وهي كالآتي: العمود الفرعوني ثم اليوناني الروماني ويتداخل معه العمود الثالث وهو القبطي وأخيرًا عمود الإسلام، أما الأعمدة الجغرافيا فهي العروبة وثقافة البحر المتوسط والبعد الأفريقي وهو المستقبل كما يراه ميلاد حنا.

وفي الختام يوضح كتاب ميلاد حنا تأثره بالهوية القبطية أولًا وذلك بحكم الولادة والبيئة وعوامل النشأة ثم تأثره بالحضارة الإسلامية بحكم القراءة والاضطلاع واستيعابه الملفت لآيات القرآن ونصوص الحديث النبوي ومعرفته لفقه المسلمين واجتهاداتهم ومعايشته لهم على أرض الواقع كما يوضح الكتاب صدق انتماءه لمفهوم القومية العربية التي لا يرى فيها نشوزًا وانفصامًا عن ميراثنا الفرعوني فمصر فرعونية الجد عربية الأب كما قال جمال حمدان وكما أيده ميلاد حنا.