رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أفكار إبداعية للنبى لمنع القتال ونشر السلام


تميزت الشهور الثمانية التى سبقت غزوة بدر فى السنة الثانية من الهجرة بأنها كانت مليئة بالتحديات التى واجهها النبى، صلى الله عليه وسلم، ليُعلّمنا من خلالها فن إدارة الأزمات فى الحياة.
على رأس تلك التحديات، أمن المدينة، فقد كانت تفتقد إلى الأمان فى ذلك الوقت، حيث تواجه تهديدات من كل مكان، سواء من جانب قريش، أو اليهود، الذين كانوا يسيطرون على الاقتصاد وصناعة السلاح، فضلًا عن المنافقين، علاوة على التهديد الخارجى من جانب القوتين العظميين فى العالم، آنذاك، وهما: الفرس والروم، بعد أن سمعا بالكيان الجديد للمسلمين.
حتى إن الصحابة كانوا ينامون وهم يحتضنون السلاح، ومنعهم النبى من أن يخرج أحدهم من المدينة ليلًا، إلى حد أنه قال ذات مرة: «ألا رجل صالح يحرسنى الليلة؟»، فقال سعد بن أبى وقاص: جئتُ أحرسك يا رسول الله.
أما التحدى الثانى فيتمثل فى القبائل المحيطة بالمدينة خشية من أن تتفق مع قريش على مهاجمة المدينة، فينتهى أمر المسلمين وقتها، فبدأ النبى يفكر فى طرق لحماية المدينة من هذا الخطر الذى يتهددها من جانب القبائل المحيطة «٢٠٠ كيلو شرقًا وغربًا وشمالًا وجنوبًا».
توصل النبى إلى فكرة إبداعية غير تقليدية لم يكن يعرفها العرب آنذاك، وهى تشكيل «السرايا»، التى تتـألف من عدد محدود من الصحابة يُقدر بالعشرات أو المئات يرسلهم النبى فى مهمة خارج المدينة، تتولى تنظيم دوريات حراسة منهم فى محيطها.
نجحت هذه الفكرة فى تأمين المدينة من أى محاولات للتعدى عليها من قبائل العرب، وفى الوقت ذاته تعلّم جيل من الصحابة التدريب على القيادة، وفهم المسلمون جغرافية البيئة المحيطة ومواردها وتضاريسها.
كان عدد السرايا يتراوح بين ٣٠ سرية و١١٤ سرية، يرسلها النبى فى اتجاهات مختلفة، مرة شمالًا، وثانية جنوبًا، وأخرى فى الشمال الغربى، كانت تحركاتها أقرب للشكل الدائرى، مشكّلة دوائر واسعة حول المدينة، وكانت بمثابة رسالة ضمنية للقبائل التى تفكر فى الإغارة عليها.
ومن النتائج الإيجابية لفكرة السرايا، أن النبى عقد معاهدات سلام مع القبائل المحيطة بالمدينة، وأعادت الأمان على الطرق للمسافرين،.
تمخض عن فكرة السرايا توقيع ١٢ معاهدة أمن وسلام مع قبائل دون اشتراط دخولها الإسلام.. لم يحمل المشاركون فى السرايا رايات الحرب، بل الرايات البيضاء.. رمز السلام، لأنها جاءت لمنع الحروب وليس لاستمرارها.
فكانت أداة اجتماعية للأمن المجتمعى والمعاهدات، وليس كما رآها المستشرقون والمتطرفون على أنها للقتال والعنف، فعمد الأولون إلى تشويه وجه الإسلام وتخويف العالم منه، والآخرون أراقوا الدماء وأثاروا الفزع بسبب فهمهم الخاطئ.
لكن فى إحدى السرايا، سرية «نخلة»، وهو مكان بين مكة والطائف، على بُعد حوالى «٤٨٠» كيلومترًا من المدينة، وكان على رأسها عبدالله بن جحش، رأوا قافلة تجارية لقريش، فيها عمرو بن الحضرمى، فى آخر يوم من رجب، يعنى فى الأشهر الحرم، فوجّه له اثنان من الصحابة سهمًا فقتلاه، فلما علم النبى بذلك غضب واحمر وجهه، وقال: «ما أمرتكم بقتال فى الشهر الحرام»، واستغلت قريش الأمر فى شن حرب إعلامية ضد النبى فى الجزيرة العربية، بأن «محمد يقتل الناس فى الأشهر الحرم».
مواجهة التحدى هنا كانت بالاعتراف بالخطأ والاستعداد لتصحيحه فورًا، وهو «دفع الدية» عن الرجل الذى قتل، فاستطاع بذلك أن يخمد فتيل الأزمة، ليعلمنا أن الكبار يعترفون بالأخطاء ويتحملون المسئولية.
كان التحدى الأصعب فى وجود المنافقين داخل المدينة، وكانت قريش تريد تحريكهم ضد النبى، فأرسل أمية بن خلف من مكة رسالة إلى عبدالله بن أبى بن سلول، رأس المنافقين بالمدينة، قال له فيها: «أنت زعيم قومك، وقد أويتم محمدًا وأصحابه، فأخرجهم وقاتلهم وإلا جئناكم وقاتلناكم واستأصلناكم».
فتحرك وجمع شخصيات من كفار «الأوس والخزرج»، ووضع خطة لضرب المسلمين أثناء صلاة الجمعة، وعلم النبى بتخطيطه، فتوجه بهدوء عجيب إلى بيت «ابن سلول» وبصحبته أبوبكر وعمر، وكان ذلك ليلة المؤامرة «ليلة الجمعة».. وفاجأه بالقول دون مقدمات: «أتقتلون أبناءكم من أجل قريش؟»، وأعادها عليه: «أتقتلون أبناءكم من أجل قريش؟»، لن يؤذوكم أكثر مما تؤذون أنفسكم بأنفسكم، ثم تركه وانصرف، نجح بمنطقه القوى فى وأد الفتنة وإحباط خطة ابن سلول، الذى لم تمنعه كراهيته للنبى من أن يقتنع بكلامه خشية أن يقال عنه إنه السبب فى اندلاع حرب أهلية أو قتل أبناء بلده.
رأى عمر بن الخطاب أن يقتلهم النبى، وكانت هناك معلومات بين المسلمين عن أن هناك منافقين لكن لا يعرفونهم بالاسم، فقد أخفى النبى أسماءهم إلا عن كاتم سره حذيفة بن اليمان، تحسبًا للمستجدات التى قد تطرأ فى المستقبل، وتوثيقًا للمعلومة، لأى سبب بعد وفاته.
أخفى أسماء المنافقين من أجل أن يحمى المجتمع من التخوين، حتى لا ينفجر من داخله، ولئلا ينتشر فكر التكفير، ولأن هناك أشياء تموت بتجاهلها وعدم الحديث عنها، تطبيقًا لفكرة: رخصوه بالترك فإن عدم الحديث عنه يميته، ومن أجل أن يفتح لهم باب التوبة، كما أن لهم حق المواطنة، فالدستور الذى وضعه النبى يأخذ بالظاهر، فكان هؤلاء يتحركون، «بيعًا وشراء وتجارة»، ويذهبون للمسجد.
استطاع النبى إدارة الأزمة بإخمادها بعدم نشرها مع مراقبتها، وتحويل ملفات المنافقين إلى معايير بدلًا من الشخصنة، والتعامل معهم وفق الظاهر، وترك باطنهم إلى الله.