رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أشرف عبدالشافى يكتب: شبح الراقصة سوسو بالالا يطارد الطبقة المتوسطة

أشرف عبدالشافى
أشرف عبدالشافى

خلف نظارة سوداء وكاب كالح اللون جلس فى خجل وكسوف وارتباك يعزف خلف الراقصة «سوسو بالالا»، ويقول للأرض انشقى وابلعينى قبل أن يرانى أحد أولادى أو أصدقائى. كان الحمل قد ‏ثقل على ظهره وهدّ بدنه وفرتك أعصابه والمرتب الذى يتقاضاه من وظيفته المحترمة لا يكفى، فدس نفسه وسط أعضاء فرقة الست سوسو يدارى الوجع والألم، إنه «طلعت» أو الفنان محمود ‏مرسى بطل فيلم «حد السيف» للعبقرى وحيد حامد والإخراج لعاطف سالم، فكلنا «طلعت» بشكل أو بآخر. قبل أن يطلق الصديق محمد الباز دعوة الدستور إلى رجال الأعمال كى يتبرعوا بجزء من ‏ثرواتهم للغلابة، كنا نتحدث فى حضور عدد من الأصدقاء عن مصير الطبقة المتوسطة فى هذا العصر الذى يشهد عواصف وأزمات مالية تستوجب بذل محاولات للحفاظ على بعض ملامحها، ‏وتساءلنا جميعًا عن هذه الطبقة فلم نعرف لها حدودًا بعد أن اقتربت تمامًا من طبقة المعدمين، وتشاركت معهم فى سكن العشوائيات والتعثر فى سداد الالتزامات الشهرية، لكننا فى النهاية توصلنا إلى ‏بقايا ملامحها، فكل منّا يمتلك قصصًا عن أصدقاء اضطروا إلى سحب أولادهم من المدارس الخاصة بعدما عجزوا عن دفع المصروفات، ومئات لم يتمكنوا من دفع أقساط شقق المستقبل التى ‏حصلوا عليها بعد عذاب، وإن كان طلعت أو محمود مرسى يعمل خلف «سوسو بالالا» فإنه يستكمل مشوار «على عبدالستار» فى «الحب فوق هضبة الهرم» لنجيب محفوظ وهى قصة، وليست ‏رواية قدمها الراحل عاطف الطيب للسينما من بطولة أحمد زكى وآثار الحكيم ونجاح الموجى وحنان سليمان، حيث البطل «أحمد زكى» شاب تخرج فى كلية الحقوق ويعمل موظفًا حكوميًا، ويعيش ‏مع والده ووالدته وشقيقتين «مها ونهى»، والفقر يسيطر على العائلة بعد خروج الوالد للمعاش، ويمضى نجيب محفوظ بشخصياته كأنه يسير بالطبقة المتوسطة إلى مصائرها المتعددة عبر مراحل ‏تاريخية، ففى الثلاثية كان أبناء تلك الطبقة هم الذين قاوموا الاحتلال، وصنعوا شعارات الثورة ومهدوا للاستقلال التام أو الموت الزؤام، ثم استعان بهم عبدالناصر فى بناء جمهوريته بعد ثورة يوليو، ‏وجذبهم السادات من ملابسهم فمزقها فى السبعينيات لتصعد طبقة المقاولين والتجار والسماسرة وتسيطر الفهلوة على الحياة كلها، ويمتلك أحمد السباك الفنان نجاح الموجى الجرأة، ويتقدم للزواج من ‏الفتاة الجامعية نهى (حنان سليمان) شقيقة البطل.‏
ومنذ الثمانينيات وقت ظهور فيلم «حد السيف» و«الحب فوق هضبة الهرم» وتلك الطبقة تدور حول نفسها لتنتج ملايين من طلعت وعلى عبدالستار، ملايين تنتمى لعائلات متوسطة نالوا قسطًا ‏معتبرًا من التعليم، وعاشوا يحلمون بالأمان مع زوجة تشبههم فى الصبر والكد والطموح، طبقة هادئة فى غضبها صابرة فى تحملها، تتقارب أحلام بناتها مع شبابها فلا تتعشم البنت فى الكاديلاك، ‏ولا فى شهر عسل على نهر السين، كلاهما يريد النجاة من كرباج الفقر الذى يلاحقهم، ويحاصر أحلامهم المتواضعة جدًا. ‏
مدرسون وصحفيون وموظفون فى بنوك ومطاعم يدورون فى نفس الدائرة من القلق والجرى والكد فى الأرض أملًا فى غد أكثر أمانًا، وأنا وأنت ندور فى فلكهم أولئك الذين لا وجود لهم فى ثنائية ‏‏«الأثرياء ومحدودى الدخل»، نحن أبناء تلك الطبقة التى يتجاهلها الجميع، الحديث فى الإعلام والدوائر السياسية للدولة يهتم أكثر بمحدودى الدخل، وكلاهما الإعلام والدولة يسعى للوصول إلى ‏المعدمين، لكن أحدًا لا يهتم بالطبقة المتوسطة التى وصفها الصديق والكاتب الراحل طارق حسن ببطل رفع الأثقال بلا منازع، الطبقة التى تتعلم بفلوسها، ولو أصيب فرد منها، لا قدر الله، بمرض ‏خطير، باعت ما تملك، ولو طرأ لديها التزام كبير وضرورى تأخذ قرضًا من بنك أو تشترك فى «جمعية» مضبوطة على مواعيد محددة، الطبقة التى قد لا يستخدم أغلبها وسائل المواصلات العامة ‏إلا نادرًا، الطبقة التى قد تحسبها من مظهرَها تنتمى إلى الأغنياء لكنهم فى الواقع من المستورين بحمد الله والتعفف، الطبقة التى تسدد أقساطًا بفوائد وقروض من البنوك ولديها «فيزا» تسددها ‏أضعافًا. ليس لديها بطاقة تموين، ولا تأكل «العيش» (الخبز) المدعم، وتخصم الحكومة من بعض أقسامها ضرائبها من المنبع، وهم الأكثر وعيًا بمعنى الدولة وتماسكها مهما كان الثمن بدليل حرصهم ‏على دفع الفواتير الشهرية للغاز والكهرباء، وكل الزيادات المتلاحقة فى كل شىء يدفعون ثمنها عن رضا، ويسددون ضرائبهم بانتظام حيث لا مفر من سحب جزء من مرتباتهم الأساسية لهذا ‏الغرض، هم ملح الأرض وشقاؤها الدائم الذى لا يكل ولا يغضب، لكنه قد ينفجر إن لم يجد نفسه فى المنظومة الاجتماعية، ويأخذ حظه من الفرص التى لن تصل إليه طالما ظل كالتور يلف فى ‏الساقية، لكى يحمى عائلته الصغيرة من الغرق، فى حين يمتلك الكثير من الطموحات والأحلام لنفسه ولبلده.‏