رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أمل دنقل يكتب: الرسول السياسى

أمل دنقل
أمل دنقل

لم يستطع جابر عصفور أن يتجاوز أحزانه على وفاة أمل دنقل إلا عام ١٩٨٨ تقريبًا.
«عندما فارقنا أمل دنقل - ١٩٨٣ - أصابتنى إثر فقده صدمة هائلة أخرستنى عن الكلام أو الكتابة عنه، فلم أستطع أن أكتب أو حتى أرتجل شيئًا عنه لخمسة أعوام، فقد كانت الصدمة قاسية، وكان ألم الفقد موجعًا، وكنت أشعر بغياب نصفى عن نصفى أو بغياب عقلى عن جسدى».. يقول «جابر» قبل أن يشير إلى أنه بدأ بعدها فى جمع التراث المنسى عن حياة «أمل» بمساعدة أرملته عبلة الروينى حتى خرج إلى النور كتابه الأحدث، عن دار بتانة، «أمل دنقل.. ذكريات ومقالات وصور».
مؤكد أنك تعرف الكثير عن «شاعر الرفض الكبير» غير أن ما جمعه «جابر» من مقالات مجهولة لـ«أمل» كان مثيرًا للدهشة.
من بين أهم ما جمعه «جابر» سلسلة نشرها الشاعر الكبير، عام ١٩٧٦، فى صحيفة الرأى الأردنية عن قريش، تحدث خلالها عن القبيلة التى بنت شهرتها بانتساب النبى محمد إليها رغم العداء الذى استمر بينهما سنين طويلة.
فى مقالاته - التى أعادت مجلة «أوراق» اللندنية نشرها عام ١٩٨٣- قدم «أمل» تحليلًا لما يمكن وصفه بـ«الحالة الدينية لقريش».
هنا فى «الدستور» اخترنا أن نعيد نشر هذه المقالات مرة أخرى ونحن نحتفل بذكرى رحيل الشاعر الكبير ٢١ مايو ١٩٨٣.
ورد - سابقًا - أن الحجر الأسود هو حجر شهابى، ورُجح أن يكون إحدى الشظايا المتناثرة من النيزك الذى سقط ودمر مدينة البتراء، ولونه الأسود قد يكون قرينة على هذه الفكرة، أما ما يقوله المؤرخون القدماء من أنه كان أبيض ناصع البياض عند نزوله من السماء، فأمر فيه اجتهاد من هؤلاء المؤرخين، وليس له سند دينى، فلم يحدثنا القرآن فى قصة بناء البيت عن هذا الحجر، بل لم يأت ذكر الحجر الأسود فى الكتاب الكريم، باعتباره معجزة أو غير معجزة، بل لا يبدو أن هذه القصة عن أصل الحجر الأسود كانت منتشرة بين المكيين، فلم يسُقها النبى عليه السلام مثلًا فى محاججته للمشركين حول الإله الواحد، فلو كانوا يعرفونها لساقها مثلًا على قدرة الله سبحانه وتعالى، والأرجح أن هذ القصة نشأت فى العصور المتأخرة لإضفاء القداسة على الحجر الذى قَبّله رسول الله ولم يجد عمر سببًا لتقبيله غير هذه السنة النبوية.

رمز القبيلة الأكبر
إذن فالحجر الأسود - فى تقديرى - هو حجر حملته قريش أو جاءت به من مدينتها الأولى، ووضعته فى الكعبة مع إلهها «هُبل» الذى جاءت به معها أيضًا كتذكار للقبيلة حول انتمائها الأول، ومن هنا كان إعظام قريش وإجلالها للحجر الأسود، ونلاحظ فى هذا أن بناء الكعبة - الذى تم قبل البعثة المحمدية - شاركت فيه قريش، لكن بأنصبة غير متساوية فى المال، ولم يعتبر أى بطن من بطون قريش فى هذا التقسيم غير المتوازن أى انتقاص لشرفه أو إضفاء للشرف عليه، لكن الأمر اختلف عندما جاء دور الحجر الأسود، فقد نشب ذلك الخلاف المشهور حول أحقية البطون المختلفة فى حمل الحجر إلى مكانه القديم من الكعبة، ونعرف جميعًا الحل الذكى الذى تقدم به محمد عليه السلام، عندما وضع الحجر فى ثوب وجعل مندوبًا عن كل بيت من بيوت قريش يمسك بطرفه حتى أعادوا الحجر.
هذا الشرف الذى كانت كل بطون قريش تعلق أهمية كبرى على نيله، هو شرف الانتماء لرمز القبيلة الأكبر، وأصولها التاريخية.

انهيار إمبراطورية زنوبيا
هل حملت قريش معها - أيضًا، إلى جانب الإله والحجر واللغة - نظامًا جديدًا لإدارة شئون المدينة؟ لقد كانت مدينة البتراء، التى رُجح أن الإسماعيليين نزحوا منها، مدينة تجارية على غرار المدن الآرامية المنتشرة، ونلاحظ فيما نلاحظ، أن الآراميين هم الشعب الوحيد فى المنطقة الذى لم يحاول أن يكوّن إمبراطورية أو يسعى إلى فرض سيطرته على الأرض بالوسائل الحربية، ورغم قيام ممالك آرامية متعددة كتدمر، وبصرى، وفدان آرام، فإن هذه الممالك كانت عبارة عن مدن تجارية فى المقام الأول، والمحاولة العسكرية الوحيدة لإقامة إمبراطورية آرامية كانت هى المحاولة التى قامت بها زنوبيا ملكة تدمر، وقد انتهت بالفشل.
ومن الطبيعى فى هذه المدن التجارية، أن يقوم نظام للحكم يختلف عما هو لدى المدن النهرية، كطيبة ومنف فى مصر، وبابل ونينوى فى العراق، فالجندية هى السبيل الوحيد للمحافظة على الاستقلال والمصالح، ومن هنا تتزايد سلطة الملك والأمراء الإقطاعيين الذين يزودون الجيش بالمقاتلين من الفلاحين، وقد تضطر الدولة للاستعانة بالمرتزقة، مما يوجب دفع أجور لهم يتحملها زُرّاع الأرض، فالنظام الهرمى فى مثل هذا المجتمع أمر ضرورى، بينما تنتفى هذه الضرورة فى مدن كبصرى أو البتراء، كما انتفت سابقًا فى مدن اليونان.

قصة صاحب اللواء
أما مكة فلم تكن استثناء من هذا، لقد قام فيها مجلس للشيوخ سمى بالنادى، أو دار الندوة، وفى هذا المجلس كانت تناقش كل أمور المدينة وتُعقد الأحلاف، وهى أحلاف تهدف - أول ما تهدف - إلى خدمة سمعة مكة التجارية، كحلف الفضول الذى تعاهدوا فيه على أن يعطوا كل ذى حق حقه، وهو شىء جديد على عادات العرب الذين كانوا يؤمنون - كقبائل - بأن القوة وحدها هى الحق.
صحيح أن القرشيين اتخذوا لواء، وهى تعبير يشير إلى القوة العسكرية، لكن هذا اللواء كان ضرورة لمكة، خاصة بعد حرب الفجار التى نشبت فى الأشهر الحرام، وربما كان اللواء هو أقل شئون مكة نصيبًا من رعاية المكيين، فلم يكن صاحبه شهيرًا شهرة عبدالمطلب صاحب السقاية والرفادة، أو شهرة عثمان بن طلحة صاحب المفاتيح، أو شهرة أبى سفيان صاحب دار الندوة، وأشهر من تولى اللواء هو خالد بن الوليد الذى قاد فرسان قريش فى غزوة الخندق، وهذا ليس غريبًا، إذ إن قريشًا لم تكن قبيلة مقاتلة كثقيف مثلًا، فالتجارة والحرب لا تتوافقان دائمًا، وربما كان لجوء قريش إلى الجنود المرتزقة الذين سموهم «الأحابيش» هو نوع من الوفاء بواجبات مكة الدفاعية تجاه القبائل التى كانت تحيط بها.

الدفاع عن طُرق التجارة
تبقى بعد ذلك هذه السمة القرشية التى لازمتها: الترفع عن أعراب الجزيرة، فهى وإن كانت أكثر حضارة واتصالًا بالأمم الأخرى، فإنها تنتسب إلى إسماعيل الذى ينتسبون إليه أيضًا، لكنها فى هذا المجال لم تقدم للقبائل العربية الأخرى أى مساعدة من أى نوع، لقد حارب العرب الفرس، وانتصروا عليهم فى ذى قار، واحتل الفرس اليمن، وأسقطوا مملكة الحيرة، وأسقط الرومان مملكة الغساسنة، ودب نزاع بين يهود يثرب وعربها، ولم تفعل قريش إزاء هذا كله شيئًا، ولم تسع بين العرب بحرب أو بصلح، حتى عندما زحفت المسيحية إلى اليمن وجاء الأحباش بقيادة أبرهة وأقاموا كنيسة «القليس» التى أرادوا بها نشر ديانة جديدة فى شبه الجزيرة، لم تتحرك قريش دفاعًا عن كعبتها، وعندما وصل أبرهة بجيشه لم يجد أحدًا، فقد غادر المكيون منازلهم والتجأوا إلى الجبال، ولولا الطير الأبابيل الشهيرة لكان هناك تاريخ آخر لمكة.
ومهما كان هذا التاريخ الآخر لمكة، فإن تجارها كانوا على ثقة أنهم فى ظل أى أوضاع جديدة فى الجزيرة سيظلون تجارًا، فإذا كانت الكعبة هى رمز الحج: السوق السنوية الكبرى لقريش، فإن قريشًا - إن فقدت جاذبية الكعبة - سوف يبقى لها المورد الآخر: طريق التجارة بين اليمن والشام، رحلتا الشتاء والصيف، ولا خشية على هذا الطريق فى ظل سيطرة الأحباش، فالأحباش فى نهاية الأمر ليسوا تجارًا وإنما هم عسكريون يهدفون - أول ما يهدفون - إلى نشر الأفكار المسيحية فى مواجهة مجوسية الفرس، وكلتاهما: المجوسية والمسيحية لا تهمان قريشًا فى كثير أو قليل إلا بقدر ما تمسّان عصب مكة الأساسى التجارة.

الصلاة باتجاه الشمال
لكن الأمر يختلف بالنسبة للإسلام، لقد عالجت قريش فى البداية قضية محمد باعتبارها قضية داخلية تخص مكة وحدها، ومن هنا كانت مقاطعتها لبنى هاشم، فهم فى نظرها خارجون عن القبيلة، لأنهم يحمون فردًا من أفرادهم يقول بتحطيم «هُبل»، وهو إله تذكارى، ويقول بمساواة الأغنياء مع الفقراء، وهو إنقاص لشأن وجهاء التجار، ويصلى - وهذا هو الأهم - فيجعل قبلته إلى بيت المقدس، صحيح أن النبى «ص» كان يجعل الكعبة بينه وبين بيت المقدس، فيصلى لكليهما، لكن قبلته النهائية كانت بيت المقدس على أى حال، بدليل أن المسلمين ظلوا عامًا ونصف العام بعد الهجرة فى يثرب يصلون ناحية الشمال، الأمر الذى يفقد مكة سوقها التجارية بين العرب، ومحمد عليه السلام ليس أبرهة، فإن أبرهة صاحب جيش وسلاح، أما محمد فهو أعزل بينهم، لا يملك قوة قاهرة تجعلهم يرضخون للأمر الواقع مثلما فعلوا مع الأحباش.

بين الكبرياء والخضوع
ومما يلفت الانتباه فى هذا الصدد، أن خضوع قريش لمحمد «ص» فى نهاية الأمر جاء بعد حصار اقتصادى طويل، لقد قطع المسلمون طريق تجارتها، حتى قال أبوسفيان إن أهل مكة يأكلون العلهز «الوبر المختلط بالدم»، كما أن صلح الحديبية جاء فى الوقت الذى قرر فيه النبى عليه السلام أن يحج إلى الكعبة.
لقد حول المسلمون قبلتهم إلى الكعبة فى السنة الثانية للهجرة، لكن تحويل القبلة لم يكن يعنى شيئًا كبيرًا بالنسبة لقريش، فالمسلمون ما زالوا يهددون طريق تجارتها، وقد فشلت بعد غزوة الأحزاب فى إعادة ميزان القوى لصالحها، فاستسلمت صاغرة، كان استسلامًا خفيًا غير معلن، تمثل فى الأعداد الكبيرة من المكيين الذين بدأوا يفدون إلى المدينة ليعلنوا إسلامهم، أوبعبارة أخرى يعلنون انتصار النظام الجديد، لكن قريش الرسمية كانت حائرة بين الكبرياء والخضوع، إن المسلمين كانوا يصلون للكعبة لكنهم لا يحجّون لها، والحج هو الفيصل فى نظر قريش، لذلك فإن محمدًا ببصيرته السياسية الخارقة عندما قرر أن يحج إلى الكعبة، كان يؤدى فرضًا من فروض الله، لكنه فى الوقت نفسه كان يعطى مكة إشارة خفية تطمئنها على مكانتها فى ظل الدين الجديد.

ملابسات صلح الحديبية
لقد قام النبى بنفسه على رأس قافلة الحجاج، ولم يرسل رجلًا من رجاله أو صاحبًا من أصحابه، وفهمت قريش الرسالة بسرعة، لكنها رجته أن يؤجل حجه للعام التالى، حتى لا يقول العرب إنه دخل مكة عُنوة، أو بعبارة أخرى، كانت قريش تريد أن تقول للذين لم يدخلوا الإسلام بعد، نحن ما زلنا قادرين على حماية أوثانكم وأصنامكم وحجكم لكعبتكم، وكان هؤلاء كثيرين لم يدخلوا الإسلام بعد. وكانت قريش فى نفس الوقت تنهى صراعها الطويل مع محمد الذى أضر بتجارتها، الشىء المهم بالنسبة لها هو طريق القوافل، بدليل أن الذين أسلموا من قريش بعد صلح الحديبية ورفض محمد «ص» قبولهم بالمدينة، تنفيذًا لنصوص معاهدة الصلح، ذهبوا إلى الصحراء وقطعوا الطريق على عير قريش، عندئذ سارعت قريش ترجو محمدًا أن يقبلهم بالمدينة مع المسلمين.
«الأمراء من قريش».. الشعار الذى رفعه أبوبكر رضى الله عنه، يعبر أصدق تعبير عن علاقة قريش ببقية عرب الجزيرة، لقد كانت تعتبر نفسها أدرى بسياسة الأمور من بقية العرب، وهذا ليس صحيحًا تمامًا، فقد كان ملوك العرب كالمنذر وسلالته، وآكل المرار وسلالته - يشهدون لعرب الجزيرة الآخرين بقدرتهم على سياسة أمور الدنيا.

سياسة الدنيا والدين
وتجب ملاحظة الخلاف بين سياسة أمور الدنيا وسياسة أمور الدين، لأن أمور الدين لا تعترف بأفضلية قرشى أو أعجمى، وهذا التعالى الذى اتسمت به نظرة قريش إلى القبائل العربية - حتى التى جاهدت جهادًا ملموسًا فى سبيل نشر الدين الجديد كالأنصار - هو ما جعل العداء بين العرب العاربة والعرب المستعربة، أى بين القحطانيين والعدنانيين، يستمر إلى ما بعد الإسلام، فقد استمر ذلك العداء بين القيسية واليمانية، واستغله الأمويون أسوأ استغلال حتى عصف بأركان الدولة الإسلامية فى نهاية الأمر، وإن المرء ليتساءل كثيرًا عن المبرر الأخلاقى أو الدينى لموقعة الحَرّة التى كانت مذبحة للأنصار تشتتوا بعدها فى الأمصار، ولم يقم لهم صوت بعد ذلك فى أمر من أمور الدين أو الدنيا. ربما أكون قد جانبت الصواب فى كثير من الاجتهادات، لكن تبقى هذه محاولة صغيرة لتقييم دور هذه القبيلة الكبيرة فى التاريخ العربى، دون افتئات على حقها أو حقوق التاريخ.