رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

محمود خليل يكتب: سيد قطب.. الجثة التى لا تريد أن تفارقنا

جريدة الدستور

- سيد قطب اختزل رسالة الإسلام لتتمحور حول فكرة الانقلاب على سلطة مجتمع وثنى مشرك

قدرة أفكار «سيد قطب» على التدخل فى صناعة أحداث الواقع المعاش تثير تساؤلًا حول السر فى استمرار فاعليتها حتى الآن. وهل يرتبط هذا الاستمرار بقيمة وجدوى هذه الأفكار التى دفع الرجل حياته ثمنًا لها أم يتعلق بسياقات معينة تكسبها معنى ومغزى رغم عدم دقتها وموضوعيتها؟.
وبإمكاننا الإجابة عن هذه الأسئلة بسهولة إذا فهمنا الظروف والملابسات التى أحاطت بسيد قطب عندما شرع فى إنتاج أفكاره التى تتسم بقدر كبير من الشطط فى وصف وتحليل طبيعة الصراع بين الإسلامييــن وأنظمة الحكم، وكذلك المجتمعات الإسلامية.

برزت جل هذه الأفكار داخل تفسيره الشهير «فى ظلال القرآن الكريم»، وكتابه «معالم فى الطريق». وكلا الكتابين تم تأليفهما فى السجن (خلال الفترة من ١٩٥٤ - ١٩٦٥). وقد اعتمد سيد قطب على منهج فى تفسير آيات الذكر الحكيم أطلق عليه «المنهج الحركى»، انطلاقًا من التمييز بين مرحلتين لنزول القرآن الكريم، وهما المرحلة المكية (مرحلة بناء العقيدة) والمرحلة المدنية (مرحلة بناء الدولة)، وبدأ يتتبع الكيفية التى أدار بها رسول الله صلى الله عليه وسلم كفاحه فى تربية الكتيبة المجاهدة من صحابته، ثم معركته مع الشرك إلى أن أقام دولة الإسلام فى جزيرة العرب.
وقد ظهر صدى هذا المنهج فى تفسير القرآن الكريم فى العديد من المفاهيم التى اشتمل عليها كتاب «معالم فى الطريق» الذى تحدث عن ذلك الجيل القرآنى الفريد الذى ربى فى حجر النبوة، ومعاناته فى سبيل الدعوة، وهجرته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، ثم كفاحه من أجل محاربة الكفر والشرك، حتى وصل إلى مرحلة إقامة الحكم لله، وتطبيق شرعه. انطلاقًا من أن التشريع هو حق خالص لله تعالى، وليس لبشر أن يخضع لتشريع بشر غيره، حتى لا يتخذ بعضنا بعضًا أربابًا من دون الله. وهذا معنى الحاكمية.
الخطأ الأساسى الذى وقع فيه سيد قطب ارتبط باختزال رسالة الإسلام لتتمحور حول فكرة الانقلاب على سلطة مجتمع وثنى مشرك، وحول خطة فى التغيير استندت إلى مجموعة من المراحل أو الخطوات. فالإسلام جاء كرسالة من أجل الإنسان وليس كمجرد منهج لتغيير السلطة داخل المجتمعات. وفى كل الظروف والأحوال لا يعنى وجود سلطة تدين بدين آخر غير الإسلام داخل مجتمع معين نفى وجود الإسلام ذاته فى نفوس المؤمنين به. ويمكننا أن نخلص من ذلك إلى أن القراءة السياسية لمراحل بناء الإنسان وبناء الدولة فى الإسلام أوقعت سيد قطب فى شرك التبسيط المخل.
لقد كان «قطب» مشغولًا بالسلطة على نحو كبير، بسبب إحساسه بالاضطهاد منها، لذلك كان اهتمامه بالتأكيد على مبدأ الحاكمية. ولم يكن انشغاله بالسلطة مقصورًا على مصر فقط، بل امتد إلى السلطة فى كل زمان ومكان. فعندما تصدى للحديث عن موضوع الجهاد مثلًا عتب على هؤلاء الخانعين الذين يضعفون أمام الفكرة التى يروج لها الغرب حول أن الإسلام قد انتشر بالسيف، وأصر على أن الجهاد فى الإسلام له هدف أساسى يتمثل فى إزالة كل الطواغيت التى تحول ما بين الشعوب والاستماع إلى رسالة القرآن. وهو يقصد بالطواغيت هنا كل السلطات (السياسية أو الاقتصادية) التى تمنع الدعوة إلى الله من الوصول إلى الشعوب. ولو عاش سيد قطب إلى الآن لأدرك أن الإسلام لا يحتاج إلى سيف ولا حربة حتى ينتشر. فالإحصاءات تقول إن عدد المسلمين تضاعف أكثر من سبع مرات خلال القرن العشرين، إذ كان عددهم مع بداية القرن (٢٠٠ مليون مسلم)، وقد وصل مع نهاية القرن إلى (١٥٠٠ مليون نسمة). لقد كان- وما زال- الجهاد الذى يحتاجه المسلمون حقيقة هو بذل الجهد من أجل تغيير أوضاعهم المعيشية والإنسانية، وحل مشكلاتهم فى الصحة والتعليم والتنمية وغير ذلك من أمـور، ناهيك عن بذل الجهد فى طاعة الله تعالى ومرضاته.
لم يكن سيد قطب- وهو يقدم هذه الأفكار- يجلس فى قصر أو يتجول فوق ظهر «يخت»، بل كان يكتبها داخل سجون الستينيات، لذلك فهى أفكار أنتجتها الأزمة وغذتها المحنة، ووجدت صداها جليًا بعد ذلك فى بيئة السبعينيات وما تلاها، حيث بدأت تسيطر على مصر حالة من حالات الانفلات العام، تمثل وجهها السياسى فى الحديث الفارغ عن الديمقراطية الشكلية التى تحتفظ للحاكم بالكرسى ما شاء الله له من العمر، ووجهها الاقتصادى فى الانفتاح الاستغلالى، ووجهها الفكرى والثقافى فى تفاهة العديد من الأفلام السينمائية، وركاكة الرسالة الإعلامية، ووجهها الإنسانى فى إهدار حقوق الإنسان. إن سياق الحال هو الذى أعطى لأفكار سيد قطب وجاهة لدى البعض، رغم ما يشوبها من عدم الدقة والرومانسية الحالمة المرتبطة بتكوينه كأديب.
وقد قصر الكثيرون فى تحليل أفكار سيد قطب، يستثنى المرحوم حسن الهضيبى حين اجتهد فى دحض فكرة التكفير التى نمت وترعرعت خلال فترة الستينيات فى كتابه «دعاة لا قضاة». وأتصور أن الكتاب ليس كافيًا فى هذا المقام، بل لا بد من وجود كتابات أخرى أكثر تفصيلًا وأقدر على تفنيد النسيج الفكرى الذى قدمه سيد قطب، بشرط الوعى بالسياق والملابسات التى أحاطت بإنتاج أفكاره.