رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ساحر الصحافة في لحظة نور.. عادل حمودة يتحدث عن مرشده الصوفي

عادل حمودة
عادل حمودة

- قدمت تفسيرًا مختلفًا لـ(محمد أقدم خلق الله) فسألنى عالم أزهرى: إنت جبت الكلام ده منين؟
- شيخى ومرشدى يدخن ويرتدى أفخر الثياب ويمتلك مزرعة أبهرت اليابانيين
- تجاوزت أزمة خروجى من «روزاليوسف» ببساطة واكتشفت بعدها أن الله أكرمنى بتلك المحنة


فى أول عملى بالصحافة طلب منى أستاذى الناقد الكبير رجاء النقاش أن أقرأ لعشرة من الكتّاب الصحفيين، كان يرى أنهم أصحاب أجمل الأساليب الصحفية، وأن قراءتهم فرض عين على كل من اختار الكتابة مهنة، وبعد وقت طويل وجهد جهيد أديت المهمة الصعبة (الإجبارية) بمتابعة دقيقة من رجاء النقاش، جاء ليقول لى إننا لو (ضربنا) هؤلاء الكُتّاب العشرة فى بعض لكان الناتج اسمه عادل حمودة. وكانت وصيته الدائمة لى أن أقرأ له وأتعلم منه، ومن حينها وأنا أتابع ما يكتبه عادل حمودة تنفيذا لوصية أستاذ كنت أثق فيه ثقة المريد فى شيخه.
ومنذ أن تابعته فى تجربته المُلهمة مع مجلة (روز اليوسف) فى التسعينيات وأنا أطارده فى كل تجربة يدخلها وكل مقال يكتبه وكل كتاب ينشره، وأظن أن كثيرين من جيلى ومن أجيال لاحقة لديهم هذا الإعجاب المزمن بعادل حمودة.

كان مدهشا فى تجاربه ومعاركه وأسلوبه المبهر فى بساطته وبلاغته وقدرته على أن يسيطر عليك من الجملة الأولى حتى السطر الأخير.. وكان مدهشا كذلك فى تجربته الإيمانية ورحلته مع الله.
تجربة قد تبدو غريبة على من اعتادوا عليه كاتبًا سياسيًا، يدخل فى الممنوع ويكتب فى المحظور ويضع يده فى أعشاش الدبابير وينتصر للحرية، تماما مثل الذين استغربوا بيرم التونسى، الشاعر المتمرد الساخر المطعون فى عقيدته، عندما كتب «القلب يعشق كل جميل»، تلك القصيدة التى تفيض محبة لله، والتى جاء فيها بفتوحات وإشراقات ونفحات صوفية لا يصل إليها سوى العارفين والأولياء!.
قبل عشر سنوات ذهب عادل حمودة فى رحلة إلى الله، سافر ليؤدى فريضة الحج، لكنه حتى وهو فى رحاب الله، وفى تلك الشعائر المقدسة واللحظات الرهيبة أمام البيت المعمور وقبر النبى لم ينس أبدا أنه صحفى، فسجل تلك التجربة وأخذك معه لتشهد وتشاهد وتندهش، ليحفر رحلته إلى الله فى وجدان من قرأوها.. تماما مثلما ذهب بيرم التونسى فى رحلة حج وحيدة خلّدها بقصيدة.
ومنذ أن كتب عادل حمودة «رحلتى إلى الله»، وقبلها عندما كتب شذرات عن تجربته الصوفية فى (لحظة نور) - وعندى فضول ضاغط لأن أسمع منه التفاصيل، فقد كنت على يقين أن لديه حكايات مدهشة ووقائع مبهرة ومواقف باهرة تستحق أن تروى، وكذلك إجابات ساخنة عن أسئلة شغلتنى كثيرا: كيف تحول اليسارى إلى صوفى؟، وهل ترك المريد عقله وحريته فى حضرة شيخه؟، وكيف قبل (العلمانى) أن يتمسح فى أضرحة الأولياء ويطلب المدد؟!.
كنت أتحسس أسئلتى وعباراتى عندما جلست إليه، ولكن عادل حمودة امتلك من الشجاعة لأن يقول لى ويعترف:
«فى بداية رحلتى إلى الله كنت أذهب إلى مسجد مولانا الحسين، وأعتبر نفسى من محبيه وكلما مررت به حتى الآن ألقى عليه السلام، كنا نلتقى هناك كل ثلاثاء، وصار الشيخ حلمى إمام المسجد من أصدقائى، ولم يكن عندى مانع من مجاورة الضريح طويلًا كنوع من تهذيب النفس، وكحالة من التوازن النفسى، فقد كان التحول حادا من حياة عشتها بالطول والعرض فى سنوات الشباب ونزقه إلى حياة جديدة ورؤية مختلفة، وقد تستغرب عندما أقول إننى رغم إيمانى الشديد بالعلم فإنه إذا مرض أحد من أسرتى فإلى جانب الطبيب والأدوية لا بد أن أُسارع بإخراج صدقة، اقتناعا بالحديث النبوى (داووا مرضاكم بالصدقة)، وشايف إنها حاجة مريحة وصحيحة ومفيدة.. نفسيا على الأقل، فيه حاجات يمكن تبدو للبعض ساذجة وكلام فارغ بس أنا بقيت مؤمن بها جدا».
هذا الذى يلقى السلام على الحسين كلما مر بمسجده كما يفعل البسطاء ولديه قناعه بأن الصدقة تداوى المرضى، هو نفسه الشاب الذى تربى فى منظمة الشباب وحصل على دوراتها الثلاث والتقى بعبدالناصر فى واحد من معسكراتها وآمن بالفكر اليسارى ولم يتورع عن كتابة مقالات فى مجلات الحائط فى دورات منظمة الشباب تتضمن -بحماس الشباب واندفاعه ورؤيته الضيقة- أفكارا تقترب من (التجاوز) الدينى، ويدعو فيها للعلمانية، وأن زمن سطوة المشايخ يجب أن ينتهى، وتصدى له زميل له فى المنظمة، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، كتب يدافع عن الدين وأهميته ودوره، وكان هذا الزميل هو السفير المعروف الآن هانى خلاف الذى تزوج من شقيقة د. أسامة الباز وصار من أصدقاء عادل حمودة.
فكيف حدث هذا التحول الحاد فى فكر عادل حمودة من (طيش) الشاب اليسارى إلى (سكينة) المتصوفة؟!، الإجابة باختصار: فتش عن الشيخ مختار.
أترك (المريد) عادل حمودة يحدثكم عن شيخه ومرشده فى (الطريق):
«فى تجربة الصوفية ينصحونك بألا تدخل بحرها بلا ملاح، أى لا بد أن يكون لك شيخ يقودك ويرشدك ويأخذ بيدك حتى لا تتوه فى الطريق أو تضيع، وكان مرشدى هو الشيخ مختار، شيخ الطريقة البرهامية، وقد عرفته عن طريق شقيقى الذى سبقنى إلى التصوف، وقد جذبنى فى الشيخ مختار ولفت نظرى إليه فى البداية أنه رجل عصرى، يدخن مثلى، ويرتدى أفخر ماركات الملابس، فهو فى الظاهر رجل عادى، ليس معمما ولا درويشا، بل ناجحًا جدًا فى عمله، ولديه مزرعة فى مديرية التحرير يربى فيها الأسماك، ثم يأخذ فضلات الأسماك ليجعلها سمادا طبيعيا يخصب به التربة ويزرع البرسيم ومن حصاده يربى الأغنام، وحصل ابنه على درجة الدكتوراه فى تجربة والده، وجاء اليابانيون ليروها وعادوا منبهرين.
يمكنك أن تعيش حياتك وتمارس عملك وأن تكون متصوفا فى الوقت نفسه وتعيش تجربة روحية.. هذا ما أعجبنى فى الشيخ مختار، الذى أثبت لى أنك يمكن أن تكون لك اجتهادات فى الدين دون أن ترتدى الزى الأزهرى.. أذكر مرة جمعتنى جلسة مع أحد علماء الأزهر الكبار، وفى تلك الجلسة سأله أحد الحاضرين عن معنى (يا أقدم خلق الله) التى يصفون به النبى (ص) فى إطار المديح وتعظيم القدر رغم أنه بالمنطق سبقه ملايين البشر من آدم حتى محمد، واجتهد العالم الأزهرى وقال ما تردده كتب السلف، فقلت له: تسمح لى يا مولانا أنا عندى تفسير مختلف، فقال لى باستغراب: قول يا سيدى، فشرحت له أن اللغة العربية تعرف التأكيد بصيغة السؤال كأن تقول: شفت فلان؟، والقرآن الكريم استخدمها فى حديثه للنبى: ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل.. ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد..، ولم يكن النبى حاضرا لتلك الوقائع وأزمانها.. بل تمتد تلك الأسئلة التوكيدية إلى ما قبل خلق السماوات والأرض، مما يعنى أن النبى هو أقدم خلق الله بالمعرفة وليس بالخلق الجسدى، وهو تفسير قال به مشايخ الصوفية وأرى أنه الأقرب للصواب.
سألنى العالم الأزهرى باستغراب: إنت عرفت الكلام ده منين؟!، وأدركت على الفور مغزى السؤال، فأغلب المشايخ لديهم تصور راسخ هو أن كل من يرتدى قميصا وبنطلونا لا يجوز له أن يتكلم فى الدين، فسألته: حضرتك لما بتدخل السرير تنام مش بتلبس جلابية زينا (وأحمد الله أننى لم أقل بيجامة)، أجاب بلا تردد: طبعا.. طبعا، سألته: طيب لو أحد اتصل بك يسألك سؤالا فى الفقه هل تقوم لارتداء الجبة والقفطان قبل أن تجيبه؟، قال: لا.. أكيد أجاوبه وأنا بملابس النوم.. ثم أدرك مغزى السؤال وأن الزى ليس مقدسا والجوهر أبقى من المظهر.. ومن الأمور التى تشغلنى كثيرا محاولة رجال الدين فرض الدين على الدنيا، مع أن الإسلام دين ودنيا معا، لماذا لا يكون هناك توافق بين الجانبين، وهو ما حاول أن يفعله واحد مثل الشيخ مختار، حتى فى أمور التحريم يحترم عقلك ويبحث عن منطق وليس على طريقة بعض المشايخ: ربنا قال كده يبقى لا تناقش!.
مثلا فى موضوع زى تحريم لبس الذهب على الرجال، فما ساقه المشايخ من حجج لا يدخل الدماغ مثل أن الذهب غالى الثمن، طيب- كما قال الشيخ مختار- ممكن أعزمك على أكلة سمك وأدفع فيها ثمن دبلة من الذهب، لكن للتحريم مغزى مختلف، حيث إن لبس الذهب يؤثر فى خصوبة الرجل.
هذا هو الشيخ الذى كان بمثابة المرشد والملاح فى طريقى إلى الله، وكان لديه من السماحة وسعة الصدر والعقل والدين ما جعله يسمع منى تساؤلاتى واجتهاداتى، فقد كنت أذهب إليه باجتهادات خاصة لى فى الدين وأنا أصيح على طريقة أينشتاين: وجدتها، فكان يسمع ويهدئ من روعى ويشرح ما استغلق على فهمى».
يعترف عادل حمودة بأن الفكر الصوفى غيّر نظرته للحياة، وجعلها أكثر رحابة واتساعا، بل حتى المصائب التى تزلزل النفوس أصبح يتقبلها ويتعايش معها بهدوء، ففى لحظات المحن يعجز العقل البشرى عن الاستيعاب والتقبل، والصوفية تعلمك أن ترضى بالمقسوم، لعله خير كامن فيما تراه أنت شرا بعقلك القاصر.
يتذكر أنه بعد إجهاض تجربته الملهمة فى روز اليوسف واغتيالها وإقصائه منها لم يصدق كثيرون أن عادل حمودة تجاوز المحنة ببساطة، وظنوه يدارى غضبه ويكتم غيظه ويرسم هدوءا مصطنعا، يحكى لى: «لم يصدقوا إنى لا زعلان ولا عامل نفسى جامد، بل تجاوزت الأمر سريعا، بدليل أننى فى اليوم التالى كنت قد بدأت فى التخطيط لحياتى القادمة وأفكر فى الكتب الجديدة التى علىّ أن أبدأ فيها، وفى مشروع الجريدة الخاصة التى كنت أحلم بإصدارها.. تعلمك الصوفية ألا تنظر للأمور من ظاهرها، وأنه ربما أعطاك فمنعك وربما منعك فأعطاك، وعندما أنظر للأمور الآن بنظرة أوسع أقول إن ما تصورته أزمة وقتها كانت كلها خيرا، فلو كنت قد استمررت فى روز اليوسف، أو حتى انتقلت لرئاسة تحرير جريدة يومية ففى المجمل كنت سأظل مجرد موظف، أما أن تكون صاحب جريدة، وأن يكون أجرك أكبر مما كنت تحصل عليه من الحكومة.. إذن فإن الله قد أراد لى الخير.. ثم إن كل إنسان ميسر لما خُلق له».
قرأ عادل حمودة فى كتب التصوف، ووقع فى غرام (ابن عربى) و(الرومى)، وما زال ينهل من فيوضات المحبة فى كتبهما وأشعارهما.. بل توصل إلى تعريف ومفهوم للتصوف يختلف عما يتردد.. يحكى لى:
«من فترة قريبة وجدت زميلا يقدم برنامجا تليفزيونيا (يفتى) فى التصوف ويقول بثقة إن الكلمة مشتقة من (أهل الصُفة) وهم الفقراء فى زمن النبى، وأرى أنه مفهوم ساذج للتصوف، كذلك من يرجعونه إلى الصوف واللباس الخشن، فهناك من أكابر الصوفية كسيدى أبوالحسن الشاذلى من كان يرتدى أفخم الثياب ويأكل أطيب الطعام ويعيش عيشة ميسرة ويقولون إن الله يريد أن يرى أثر نعمته على عبده.. أما أفضل تعريف للصوفية فى رأيى أنه مأخوذ من الاصطفاء، وهو المعنى الموجود فى الآية الشهيرة عن السيدة مريم: يا مريم إن الله اصطفاكِ وطهركِ واصطفاكِ على نساء العالمين.
الصوفية من الاصطفاء، يعنى ربنا يختارك من بين عباده لترقيتك بعيدا عن سلك الأنبياء، وأحيانا يكون الاصطفاء لأسباب تعلو عن فهم وإدراك البشر، يعنى شوف قصة سيدنا الخضر مع موسى، الخضر ليس نبيا ولكن «عبدا من عبادنا» اصطفاه الله ومنحه علما من عنده ليعلم موسى وهو واحد من أولى العزم من الرسل، بل إن موسى لم يستطع معه صبرا، هذا معناه أن هناك دولة أخرى غير دولة الأنبياء، يختار الله فيها أولياءه، وبمعايير ومقاييس مختلفة لا تعرف (الواسطة)، يعنى هناك من يفتخر أنه من الأشراف وأنه من سلالة آل البيت ويقدم لك ما يثبت انتماءه للسلالة المباركة.. عظيم.. إنما الأمر فى الصوفية مختلف، فهى دولة للترقى إلى الله بعيدا عن سلك الأنبياء».
استغرقت قراءات عادل حمودة فى الفكر الصوفى نحو ٥ سنوات على فترات متقطعة، خاصة فى شهور رمضان، حيث كان يجد ساعات طويلة فى نهار الصيام ليبحر فى كتب الصوفية وبحورها، وبدأ يكتب اجتهادات وخواطر صوفية فى (صوت الأمة)، وجمع (لحظة نور) فى كتاب فيما بعد، تجده على شبكة الإنترنت مترجما ويحظى بإقبال من المسلمين فى شرق آسيا.. لكن أجمل ما حصل عليه هو شهادة من شيخ مشايخ الطرق الصوفية يشيد فيها بخواطره الصوفية ويشجعه عليها.
وأسأل عادل حمودة: من يتتبع مسيرتك لا بد أن يصاب بالدهشة وهو يسمع منك هذه (التجليات) الصوفية.. فالنقلة كبيرة وحادة من أحضان الماركسية إلى مقام الحسين.. دعنى أسألك عن موقفك من التيارات الوجودية والإلحادية التى كانت (موضة) بين شباب جيلك فى يوم من الأيام.. هل تأثرت بها.. وماذا كان موقفك منها.. وأين كان موقع الدين عند جماعتك من أهل اليسار؟.
عادل حمودة لديه إجابات صريحة على تلك الأسئلة الحساسة.. نسمعها منه فى الجزء الثانى من هذا الحوار المدهش مع ساحر الصحافة المصرية.