رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الجنة التي حرقها الربيع العربي


لم يعرف قطار الربيع العربى الرحمة فى انطلاقته عبر الدول والمدن.. قسّم الدول ودمر المدن ورد الجميل لمن استقبلوه بدهسهم تحت عجلاته.. فعندما انتظره أبناء غوطة دمشق، وهم يأملون ركوبه إلى محطات الحرية والكرامة، لم يكن أكثر المتشائمين منهم يعتقد أن قطار الربيع الذى علق على نوافذه لافتات الحرية والعدل والمساواة والثورة، سوف يدمر حدائق الغوطة الغنّاء، ويحمل لحدائق المشمش الحموى والتوت الشامى والخوخ والقرصية ثمارًا أخرى ليست ثمارًا للزرع ولكنها ثمار للتدمير.

غوطة دمشق التى أصبحت تنافس عفرين فى تصدر نشرات الأخبار وقرارات الأمم المتحدة، لم تعد إحدى جنات الدنيا كما جاء وصفها فى كتاب عجائب البلدان والذى قال عنها إنها ثمانية عشر ميلًا كلها بساتين وقصور تحيط بها جبال عالية من جميع جهاتها ومياهها خارجة من تلك الجبال، وتمتد فى الغوطة عدة أنهار وهى أنزه بقاع الأرض وأحسنها، هى إحدى جنات الدنيا كما عفرين، ويبدو أن المصير المشترك للغوطة وعفرين هو أكثر الأمثلة وضوحًا على ما قام به قطار الربيع العربى من تدمير.

الغوطة القديمة تنقسم إلى قسمين: هما الغوطة الغربية والغوطة الشرقية، والشرقية هى التى تقع تحت سيطرة عدد من الفصائل المسلحة.

فى مارس ٢٠١١ ومنذ سبعة أعوام بالتمام، كانت منطقة الغوطة الشرقية مركزًا للمظاهرات المعارضة لبشار الأسد، ومع بداية تسلح فصائل صغيرة تحولت منطقة الغوطة الشرقية إلى واحدة من أوائل المدن التى ظهرت فيها مظاهر التسلح والتى بدأت بأسلحة بسيطة، ثم مع ظهور التمويل للمعارضة تحولت هذه الأسلحة إلى صواريخ ومدفعية ومضادات للدبابات، وتحولت المظاهرات إلى صدامات وحرب عصابات، ولم يمر عامان حتى انسحب الجيش السورى من جميع مناطق الغوطة الشرقية، واكتفى بالتواجد فى الغوطة الغربية محاصرًا كل محيط الغوطة الشرقية فى البداية، وكما حدث فى حلب ودرعا كان لكل قرية فى الغوطة فصيل عسكرى مسلح.. ومع الصدام والتدخل الأجنبى ومحاولة الفصائل الصمود فى وجه حصار الجيش السورى وصد هجماته، استطاعت بعض الفصائل فرض سيطرتها والتخلص من الأخرى أو دمجها معا فى فصائل ثلاث هى:

جيش الإسلام ويضم ٥٥ فصيلًا مسلحًا، وتم تشكيله فى يوليو ٢٠١٣ بقيادة زهران علوش، وهو حاصل على الماجستير فى العلوم الإسلامية، ويحمل فكرًا سلفيًا أقرب إلى فكر تنظيم القاعدة، وسبق له دخول السجن فى ٢٠١٠ وخرج فى العفو الشهير الذى أصدره الأسد عام ٢٠١١ فى محاولة منه لتهدئة الأوضاع فانقلبت ضده.. خرج علوش فى يونيو ٢٠١١ مع أبومحمد الجولانى، زعيم تنظيم القاعدة، ولم يستمر علوش كثيرًا فى قيادة جيش الإسلام، فقتل فى إحدى غارات طيران الجيش السورى فى ديسمبر ٢٠١٥، جيش الإسلام يضم حوالى ١٤ ألف مقاتل وهو الفصيل الأكبر والأقوى فى الغوطة، ورغم موقفه من النظام السورى فقد بدأ علوش حربًا على داعش واستطاع منعه من التواجد فى الغوطة، واستطاع القضاء على العديد من الفصائل، وضم الباقين إليه، ولكنه خاض صراعًا آخر مع منافسه الأقوى فيلق الرحمن.

الفصيل الثانى المؤثر والموجود على الأرض فى الغوطة، فيلق الرحمن، ويقوده نقيب سابق فى الجيش السورى يدعى عبدالناصر شمير، وهو الذى رفض الانضمام إلى جيش الإسلام، كما أنه لا يحمل الكثير من الأفكار المتطرفة، بل يضع ضمن أهدافه محاربة الميليشيات الأجنبية الطائفية والقوى أو التنظيمات التكفيرية الموجودة بسوريا، ويسعى إلى الحفاظ على مؤسسات الدولة والأملاك الخاضعة للدولة وينص فى ميثاقه على الدفاع عن حقوق الشعب السورى بجميع أطيافه وفق الشرع الإسلامى ورغم أنه يعد التنظيم الثانى، إلا أن المعلومات عن تسليحه وعدد مقاتليه ليست واضحة بوضوح المعلومات عن جيش الإسلام.

التنظيم الثالث أو الفصيل العسكرى الثالث فى الغوطة، جبهة النصرة- فرع تنظيم القاعدة فى سوريا والمدعوم من قطر، ورغم وجود جبهة النصرة القوى فى إدلب فى شمال سوريا الآن، فإن وجود الفصيل فى الغوطة ضعيف ولا يتجاوز عددهم الألف مقاتل منهم الكثير من الأجانب.

وحتى أسابيع مضت لم تكن الأحوال فى الغوطة ترقى إلى مستوى الصراع المدمر ولكن موقعها الاستراتيجى بالقرب من العاصمة دمشق والغوطة الغربية والواقعتين تحت سيطرة الجيش السورى، وبعد انتصارات الجيش السورى فى حلب وتحريرها وتواجده بالقرب من عفرين.. كما أن محاولات الفصائل المسلحة إطلاق الصواريخ على العاصمة بشكل يومى- كل ذلك أدى إلى تدخل الجيش السورى بشكل قوى فى محاولة منه لتكرار سيناريو حلب، والتى حررها بعد معركة استمرت شهورًا ثلاثة، ومنذ نوفمبر ٢٠١٧ وحتى الآن أصبحت مناطق الغوطة الشرقية فى زملكا وعرين والنشايبة حيث يتواجد مقاتلو جبهة النصرة أو فى حزرما الرزيقية وحوش الضواهرة، حيث تواجد جيش الإسلام وكذا فى دوما وحرستا التى استقبلت أكثر من مائة قذيفة مدفعية فى يوم واحد.

لم تسلم منطقة فى الغوطة الشرقية بدءًا من حمورية وحتى جسرين من الغارات اليومية للجيش السورى أو القصف المدفعى المتتالى.. سيناريو حلب يتكرر فى الغوطة الشرقية، حصار يطول لشهور.. المدنيون يعيشون فى الأنفاق وتحت الأقبية.. الفصائل المسلحة تتخذ منهم دروعًا بشرية.. ثم مرحلة من القصف اليومى بالطيران والمدفعية يضطر معه المسلحون للتسليم مع نفاد الذخيرة وارتفاع أعداد القتلى.. ولكن هناك ما يقرب من نصف مليون مدنى ما زالوا هناك متمسكين بأرضهم ومنازلهم التى تهدم معظمها وهم الباقون من نحو مليون ونصف المليون سورى كانوا يعيشون فى مناطق الغوطة الشرقية.. الوضع على الأرض يقارب المشهد الحلبى منذ شهور.. مدنيون بالآلاف محاصرون لا تصل إليهم الأدوية ولا الأغذية، قتلى يتزايد عددهم بمعدل يومى، مئات المصابين بلا علاج وآخر صفقة أغذية وصلت إليهم كانت فى نوفمبر الماضى.. حوالى ٥٠٠ شهيد بينهم ٧٦ طفلًا و٤٧ سيدة، ٩ مراكز طبية توقفت تمامًا عن العمل، إما لتدميرها أو لنفاد الدواء بها.. فى المقابل هناك ١١٤ مواطنًا استشهدوا نتيجة لقصف مدفعى من الفصائل على الغوطة الغربية أو دمشق بينهم أيضًا ١٧ طفلًا و١٤ سيدة.

الغوطة التى كانت تمتلئ بالقصور والبساتين، تحول سكانها إلى آلاف من الأشخاص يعيشون تحت الأرض فى الأقبية والملاجئ المؤقتة، وفى المناطق التى دمرها القصف تم ربط بعضها تحت الأرض عن طريق الأنفاق، ويظل بعضهم تحت الأقبية لمدة تزيد على ٧٢ ساعة دون ماء أو غذاء، ويصف بعض السكان هذه المناطق بأنها أقرب إلى المقابر.. مجموعات الإغاثة والمنظمات العاملة فى إنقاذ المدنيين تؤكد أن الأوضاع سوف تتدهور سريعًا. فالسكان يفتقدون الهواء النقى والكهرباء والمياه الجارية ومؤسسات الصرف الصحى، وسوف يؤدى ذلك إلى مشاكل صحية مثل أمراض الجهاز التنفسى وانتشار الحشرات.

اليوم والهدنة تنتظم لساعات وتفشل لساعات لا يستطيع أحد التنبؤ بمستقبل الغوطة القريب، ولكن المتوقع هو أن السيناريو يسير نحو مصير حلب، وأن الحصار المفروض حاليًا بدعم من روسيا وإيران، سينتهى بخروج باقى المسلحين عبر دروب آمنة أو صفقات تنتهى بتغيير تركيبة السكان وعودة بعض النازحين وستلحق الغوطة بحلب لتؤكد أن الجيش السورى بدأ يستعيد سيطرته على بلاده، نعم بدعم روسى وإيرانى ولكنه فى النهاية الأفضل من فصائل مسلحة تدين بالولاء لقطر أو الولايات المتحدة.وعلى العكس من الموقف فى عفرين فالولايات المتحدة لا تعطى الغوطة الاهتمام الأكبر مثلما حدث فى عفرين. فطبيعة المنطقة وقربها أو التصاقها بالعاصمة تجعل فصلها أمرًا صعبًا، فى حين يتوافر ذلك فى عفرين القريبة من الحدود التركية، والتى تسعى الولايات المتحدة إلى فتح صفحة جديدة معها. فبعد دعم أمريكى للأكراد، تغيرت الموازين لصالح روسيا حيث طلبت الوحدات الكردية دعمًا من فصائل موالية للجيش السورى، وبالتالى أتيحت الفرصة لقوات الجيش السورى للوصول إلى عفرين وما حولها، وما تبع ذلك من اعتباره تمددًا روسيًا لمنطقة كانت تحت نفوذ ودعم أمريكى.. التحول فى الموقف الكردى وبحث الوحدات الكردية عن دعم حكومى سورى فى مواجهة الهجمة التركية- سيؤدى بالتالى إلى تغير فى الموقف الأمريكى ربما من القضية الكردية كلها، وهو ما تبنى عليه تركيا حلمها فى استبعاد الولايات المتحدة من الصراع التركى- الكردى، وهو ما يتيح لتركيا ربما تحقيق هدفها من تقليم أظافر الوحدات الكردية فى شمال سوريا، وبالتالى فإن التحرك الكردى فى جنوب تركيا، هو الذى يشكل هاجس الخوف الدائم لحكومة أردوغان.

ورغم ما يقال بأن الغوطة تتجه إلى السيناريو الحلبى، وهو ما يعنى تزايد قوة بشار الأسد، فإن قوات الجيش السورى بسطت سيطرتها على مناطق نفوذ جديدة، أهم ما فيها من أهداف تأمين العاصمة من الهجمات الصاروخية اليومية القادمة من الغوطة الشرقية.. هذا التأمين يعنى المحافظة على وجود حكومة مركزية سورية.. رغم ذلك فإن الأمل فى عودة السيطرة الكاملة للجيش السورى ما زال بعيدًا، وما زالت هناك مناطق ستظل مرتعًا لصراع طويل. فهناك هدف مدخل حلب وأيضًا منطقة إدلب والشمال السورى الذى ما زال مشتعلًا بعد عملية غصن الزيتون التى أطلقتها تركيا، وتحاول فيها احتلال عفرين للقضاء على الوحدات الكردية المؤيدة لحزب العمال الكردستانى العدو اللدود لأردوغان.

وما بين غصن الزيتون فى عفرين وفكى الكماشة فى الغوطة الشرقية، يعيش السوريون بدايات العام الثامن من أعوام الربيع الأسود، وكما تحاول تركيا الفصل بين عفرين وما حولها، تحاول قوات الجيش السورى الفصل بين دوما وحرستا فى الغوطة فى الشمال.. محاولات لاحتلال جزء من الدولة وفى الغوطة محاولة لتحرير جزء من الدولة.. فى الشمال جيش يحاول الاحتلال وفى الغوطة جيش يحاول التحرير وما بين محاولات تركية للاحتلال ومحاولات سورية للتحرير، يظل أطفال الغوطة تحت الأقبية يسمعون أزيز الصواريخ وهدير المدفعية والطائرات وانفجارات البراميل بعد أن كان همهم هو اللعب وسط حدائق الغوطة وجنى القرصية والمشمش وفواكه سوريا الرائعة وبعد أن كان حلم السوريين قضاء يوم فى الغوطة أو الذهاب إلى مناطق الجليد فى عفرين، أصبح همهم الهروب من هذه المناطق إلى مناطق ربما تكون أكثر أمنًا.. سوريا الآن لم تعد تحمل من الماضى سوى ذكريات وأفلام ومسلسلات تظهر فيها الحدائق والقصور، وتحولت إلى واقع مؤلم لم يعد يحمل سوى تدمير وقتل ونهب.. سوريا دفعت الثمن غاليًا لمرور قطار الربيع العربى بها، وسيظل السوريون يلعنون اليوم الذى رحب فيه بعضهم بذلك.. وسيظل كل جندى سورى يحس بالندم يوم أن ترك زميله ينفصل عنه لينضم إلى الجيش الحر الذى كان بداية المأساة السورية.

ما يحدث فى سوريا يجعلنى وبحق أقول لكل جندى مصرى: حافظ على تراب وطنك من تدنيس الإرهابيين له.. ولكل مصرى وقف فى وجه القطار المدمر وقدم حياته ثمنًا لكى لا تصبح محافظات مصرية شبيهة بعفرين والغوطة.. نقول لكل هؤلاء ولكل من خرج فى ٣٠ يونيو داعمًا للحفاظ على مصر ونقول لمن قاد هؤلاء شكرًا لكم.. فقد حافظتم على وطنكم وحفظ الله بكم وطنكم.