رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

هل وقع الأغا فى فخ عفرين؟


مليون سورى على مساحة تعادل ٢٪ من مساحة الدولة فى منطقة جبلية تبلغ مساحتها نحو ٣٨٥٠ كيلومترًا مربعًا فى منطقة منفصلة جغرافيًا عن مناطق أخرى يعيش ويسيطر عليها الأكراد على طول الحدود مع تركيا.. المليون سورى نصفهم أتى إلى هذه المنطقة هربًا مما كان يحدث فى حلب وريفها على مدار السنوات الماضية، وكالمستجير من الرمضاء بالنار هرب هؤلاء من جحيم داعش إلى جحيم جديد يعيشونه فى «عفرين».
عفرين السورية التى أصبح اسمها قاسمًا مشتركًا فى أغلب نشرات الأخبار وأصبحت صور شهدائها هى الأولى تصدرًا فى المواقع الإخبارية والإلكترونية.. عفرين تمتلئ بمزارع الزيتون والحمضيات والكروم، وهى منطقة لها تاريخ قديم كانت تضم طريقًا رومانيًا، وكشفت الحفريات عن أحجار بناء ضخمة وتذكر كتب التاريخ أنه فى القرون الوسطى حوالى القرن الرابع عشر كان فى موقع المدينة جسر يسمى «جسر قيبار» نسبة إلى عليق يبار، ولاتزال هناك آثار لذلك الحصن قائمة فى شمال غربى قرية «عرش قيبار» الحالية.. عفرين تدفع الآن ثمن طمع تركى وحلم لأردوغان أن يستعيد السلطنة العثمانية، فالتاريخ يقول إنها فى العصر العثمانى كان بها خان لإيواء المسافرين وكانت منطقة كرد داغ «عفرين بعد ذلك» تابعة لقضاء كلس وهو مدينة تركية شمالى مدينة عزاز السورية، وبعد أن تم ترسيم الحدود فى عهد الانتداب الفرنسى على سوريا قسمت منطقة «كرد داغ» إلى قسمين أحدهما تركى والآخر سورى، وباشر الفرنسيون بناء الدوائر الحكومية حلًا لعدم وجود دوائر فى القسم السورى، وكان أوائل السكان فى عفرين من أغوات المنطقة ومنهم آل سيد وآل بارى وزعيم الإيزيديين درويش أغا شمو وأحمد خليل، وسكن عفرين أيضًا الأرمن الهاربون من بطش الأتراك، وكانت لهم كنيسة ظلت قائمة حتى الستينيات.
عفرين شهدت منذ أسابيع انطلاق عملية أطلق عليها أردوغان اسم غصن الزيتون، وتحديدًا فى العشرين من يناير، متذرعًا فى خطابه فى مدينة بورصة، ثانى يوم لإطلاق العملية، بأن ٥٥٪ من أهالى عفرين عرب وأن ٣٥٪ من الأكراد وصلوا مع الحرب وأن الهدف الحقيقى من العملية هو إعادة الأرض إلى أصحابها الحقيقيين، بالإضافة إلى هدف آخر أن لدى تركيا ثلاثة ملايين ونصف المليون لاجئ سورى يعيشون على الأرض السورية، وهدف أردوغان هو إعادة هؤلاء الإخوة والأخوات إلى سوريا بأسرع وقت ممكن، وأضاف أن هناك خطوات حالية تتخذ فى هذا الاتجاه.. أردوغان لا يخفى السبب الحقيقى للهجوم على عفرين، فيؤكد أن تركيا تتخذ إجراءات ضد المنظمة الإرهابية الانفصالية وأن الجيش التركى سيزيل جميع عناصر حزب العمال الكردستانى، حزب الاتحاد الديمقراطى الكردستانى ووحدات حماية الشعب الكردية، مدعيًا أن كل هؤلاء يتخذون من عفرين نقطة انطلاق نحو تركيا، وفى سبيل ذلك لن تقف العملية عند عفرين ولكنه سيتحرك فى اتجاه منبج شرقًا بريف حلب الشرقى وصولًا إلى مناطق سيطرة الأكراد فى محافظة الرقة والحسكة.
حلم أردوغان بالسلطنة العثمانية ليس هو السبب الوحيد، ولكن هناك أسباب أخرى أشار إليها براد بانى، المستشار العسكرى السابق للجيش الأمريكى فى العراق والذى يشير إلى أن هناك مصالح استراتيجية فى الخطابات التركية الرسمية، وتقضى هذه المصالح بمنع إقامة دولة كردية قابلة للحياة على الحدود التركية الجنوبية، حيث وحدات حماية الشعب الكردية قادرة على بناء دولة حيوية وإعطائها منفذًا على البحر المتوسط، هذا المنفذ قد يلغى اعتماد كردستان العراق على خطوط الأنابيب التى تمر من تركيا فيعرض الاقتصاد التركى للخطر.
الحلم الكردى بإقامة دولة هو نفسه الذى يسبب القلق لتركيا، فتركيا ترى أن قوات حماية الشعب الكردية هى امتداد لمتمردى حزب العمال الكردستانى الذين يقاتلون تركيا منذ سنوات، ولذلك تنظر تركيا إلى قوات الحماية الكردية على أنها تهديد مباشر لأمنها القومى وسبق أن وجهت لها اتهامات بقصف بلدات تركية حدودية، وتخشى تركيا أن يتسبب الحلم الكردى بإقامة دولته أن تكون البداية عفرين وأن يتمكن الأكراد من إقامة كيان جغرافى متصل على الحدود التركية قبالة المحافظات الجنوبية التى يسكنها أكراد.. بالإضافة إلى استياء وخوف تركى من توازن القوى القائم فى شمال سوريا والذى أصبح يميل لصالح الأكراد والنظام السورى، وأنها تخشى قيام كيان كردى معادٍ جدًا فى سوريا على الحدود الجنوبية بحكم الأمر الواقع، والذى ساعد على ذلك، كما ترى تركيا، هو الدعم المتزايد من واشنطن لوحدات حماية الشعب الكردية، خصوصًا بالسلاح، وأدى ذلك إلى توتر العلاقات بين تركيا والولايات المتحدة، خاصة مع عدم استجابة الولايات المتحدة للمطالب التركية بوقف مد الأكراد بالسلاح.
إذن هناك توجس وخوف تركى من إنشاء كيان كردى جنوبى تركيا، أيضًا ما تخشاه تركيا أن تحصل الولايات المتحدة على شريك عسكرى جديد فى المنطقة فى مواجهة التواجد الروسى القوى فى أمن سوريا، هذا الشريك العسكرى هو الأكراد بقوة تنظيمهم وقوتهم العسكرية وسوف يتحولون مع الوقت إلى حليف عسكرى أقرب إلى واشنطن من الأتراك بسبب الخلافات الكثيرة، وسيصبح الأكراد القوة الأولى التى يعتمد عليها البيت الأبيض.. لذلك تركيا وهى تدرك جيدًا أن وجودها العسكرى على الأرض هو السبيل للحصول على نفوذ مؤثر فى سوريا.. اتجهت فى سبيل ذلك إلى الاستعانة بقوات عسكرية محلية موالية لها تقاتل فى سوريا إلى جانب جيشها.. كل ذلك سيؤدى إلى ضمان حصة مهمة فى أموال المانحين الدوليين بعد انتهاء الحرب وبدء إعمار سوريا، هذا التدخل التركى العسكرى من شأنه تعزيز المزيد من الحضور التركى فى مناطق سورية أخرى مثل إدلب التى تحتضن قوى المعارضة المسلحة المرتبطة بتركيا ويقطنها مليونا مواطن.
ليست هذه الأسباب هى الوحيدة لدفع أردوغان إلى خوض حرب فى عفرين ولكن هناك من يرى أن هذه العملية العسكرية ستكون فى صالح حزب العدالة والتنمية، الحاكم، والذى يسعى إلى حشد الأصوات القوية لصالحه، فعلى الرغم من الاختلافات الكبيرة بين الحزب، صاحب التوجهات الإسلامية، وأحزاب المعارضة المختلفة فإن ثمة إجماعًا تركيًا على ضرورة منع قيام دولة كردية على الحدود سواء فى كردستان العراق أو سوريا، كما أن هذه الحملة ستجلب المزيد من الأصوات فى الانتخابات البرلمانية والرئاسية لسنة ٢٠١٩، لتعويض الضرر الناجم عن عمليات تطهير الدوائر الحكومية من أتباع فتح الله كولن، المتهم بمحاولة الانقلاب العسكرى فى يوليو ٢٠١٦.. وكان أتباع جماعة فتح الله كولن يمتلكون احتياطيًا استراتيجيًا للأصوات لحزب العدالة والتنمية قبل الخلاف الذى وقع بين كولن وأردوغان قبل سنوات، وانتهى باتهام أردوغان لكولن بمحاولة الانقلاب عليه، وعلى إثرها قام بفصل آلاف الضباط والقضاة وأساتذة الجامعات وعشرات الآلاف من الموظفين وحتى الطلبة فتحولوا جميعًا إلى معارضة يخشى أردوغان أن توقع به فى الانتخابات القادمة، فكان أحد الحلول هو حشد الأصوات القومية بحرب يؤكد خلالها أنها ضد الأكراد وضد محاولات انفصالية قد يقومون بها.
وإذا كانت هذه هى الأسباب التى دفعت تركيا للبدء فى الحرب على عفرين وتصميمها على الانطلاق نحو مناطق أخرى كانت الولايات المتحدة قد ساعدتها عسكريًا فإن هناك أسبابًا مهمة دعت روسيا إلى عدم التدخل فى الصراع القائم بين تركيا والأكراد، وذلك يرجع فى نظر المحللين الروس إلى ممارسات الجانب الكردى خلال الفترة السابقة على اندلاع الأحداث، إذ أصبح الأكراد غير مبالين بمصالح روسيا أو النظام السورى وتحولوا إلى دمى تحركها الولايات المتحدة، ويعتبر ميخائيل الكسندروف أن الأكراد لم يتوانوا عن تنفيذ أوامر الأوصياء الأجانب، كما تحركوا فى المناطق التى تقع تحت سيطرة تنظيم داعش.. سعيًا منهم لمهاجمة القوات الموالية للحكومة السورية.. وهناك فى هذه المناطق مخيمات تضم مدربين أمريكيين مهمتهم إعداد مقاتلين جدد لضرب الجيش السورى النظامى، وأن الأكراد رفضوا استكمال المفاوضات المتعلقة بالتسوية فى سوريا أو سحب القوات الموالية لهم من العديد من المناطق التى سيطروا عليها بما فيها الرقة، لذلك كله رأت روسيا أن وقوف الأكراد فى صف الولايات المتحدة له تبعات كبيرة ليس فقط بالنسبة لمصالح الرئيس السورى بشار الأسد بل لصالح روسيا فى الشرق الأوسط، ومن ثم لم تعد هناك أى دوافع حتى تقوم روسيا بالدفاع عنهم وحمايتهم فتركت تركيا تتعامل معهم عسكريا.
وإن كان ذلك هو الموقف الروسى حتى الآن فإنه بعد وصول قوات موالية للأسد ووحدات من الجيش السورى إلى عفرين، فإن الموازين قد تتغير وقد تضطر إلى التدخل دعمًا لحليفها وأيضًا لاستعادة وجودها فى المنطقة الشمالية بعد محاولات الولايات المتحدة السيطرة أو النفاذ إليها عبر معسكرات التدريب الأمريكية المنتشرة فى عفرين وحولها وأيضًا لمنع وصول صفقات أسلحة جديدة للأكراد، ومع وصول القوات السورية إلى مشارف عفرين يؤكد الأتراك أن ذلك سيحول الموقف إلى كارثة يدفع ثمنها الجيش السورى، وترى تركيا أن العمليات العسكرية كانت تسير وفقًا لما هو مخطط لها ولكنها ستتحول إلى كارثة إذا تدخلت القوات السورية.
ما يحدث فى عفرين قد يغير الموقف الأمريكى، فقد تضطر واشنطن إلى تقليص الإمدادات العسكرية التى تقدمها للوحدات الكردية، وستتجه إلى التعاون مع أنقرة، وقد تسحب قواتها وتغض النظر عن العمليات التى تقوم بها تركيا.. فالموقف الأمريكى قد يكون حرجًا مع استمرار دعمها للوحدات الكردية، وفى المقابل فإن واشنطن ستطلب من أنقرة تقديم الدعم الكافى فيما يتعلق برفض الوجود الإيرانى فى سوريا، ووصف البعض زيارة ريكس تيلرسون الأخيرة إلى أنقرة بأنها بمثابة حملة أمريكية تهدف إلى سحب أنقرة من التحالف الروسى شيئًا فشيئًا، وإلى هدف زيارة ريكس تيلرسون الساعى إلى إبعاد تركيا عن التحالف مع روسيا والذى قد يدفع موسكو إلى القيام بحملات من شأنها أن ترضى تركيا.
ولكن فى المقابل فإن التعاون الذى يلوح فى الأفق للحكام الأكراد فى عفرين مع بشار الأسد، فإن روسيا ستدفع بالأكراد إلى التعاون الفعلى مع بشار الأسد، وهو ما قد بدأ يتحقق خلال الساعات الماضية، وإذا قدمت الوحدات المؤيدة للرئيس السورى المساعدة لوحدات حماية الشعب الكردية فى عفرين للدفاع عن المجال الجوى والحدود ضد هجمات تركية، فإن ذلك سيدفع بروسيا أيضًا والتى تدعم الأسد إلى دخول حلبة الصراع فى المنطقة، وقد يدفع ذلك فى النهاية إلى صراع روسى- أمريكى.
الآثار التى تترتب على ما يحدث فى عفرين لن تتوقف عند الحدود التركية- السورية ولكنها ستتجه إلى تركيا فى الداخل، وهو ما قد بدأ فى الحدوث بالفعل فى المحافظات الجنوبية التركية ذات الأغلبية الكردية، وقد ينتهى الوضع إلى انتفاضة كردية داخل تركيا.
الأوضاع المعقدة فى عفرين الآن قد تدفع تركيا للتدخل ضد وحدات الجيش السورى أو الفصائل الموالية له، والتى بدأت فى الوصول إلى عفرين، وانتصارات الأسد فى المناطق غير المأهولة بالأكراد فى سوريا تمثل انتكاسة، فالسماح بقيام دولة كردية على الحدود مع تركيا سيمثل هزيمة نكراء لأنقرة.