رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

تذكر وفكر وقرر




ما بين ٢٨ يناير ٢٠١١ و٢ فبراير، شهدت مصر أهم الأحداث فى تاريخها المعاصر.. تحولت مسارات السياسة والحكم وتغيرت كل الأحوال، ودخلت مصر نفقًا مظلمًا ظلت فيه ما يقرب من ثلاثة أعوام.. فى الثامن والعشرين من يناير تحولت الثورة إلى مؤامرة وتاه الشباب الذين خرجوا ليقولوا عيش، حرية، عدالة اجتماعية.
تاه الشباب وسط بلطجية وإخوان، وما بين الإخوان والبلطجية ضاع كل شىء.. النظام سقط.. حرقت القاهرة وأغلب عواصم المحافظات طالها التدمير.. وتحولت الشرطة إلى بقايا من جهاز يحاول فيه بعض الرجال، الدفاع عن مواقعهم أو الحفاظ على معداتهم.. فى الثامن والعشرين من يناير وبعد المغرب مباشرة انطلق مئات البلطجية يسرقون وينهبون ويقتلون.. احتمى المواطنون بالبيوت، وكانت محاولة الوصول إلى العمل مغامرة غير محسوبة.. الجيش نزل إلى الشارع ليؤمن الأماكن المهمة، وأصبحت الدولة فى حماية القوات المسلحة، ولكن ما كان يحدث فى الشارع كان المأساة العظيمة.. المؤامرة بدأت ملامحها القاسية فى الظهور.. اقتحام للسجون.. مرسى يتحدث للجزيرة عبر تليفون «الثريا» من وادى النطرون. كان المشهد فى الثامن والعشرين من يناير من أقسى المشاهد التى شهدتها مصر بعد حريق القاهرة الأول فى يناير ١٩٥٢ وجاء السبت صباحًا والناشرون فى معرض القاهرة للكتاب يجمعون كتبهم ويسارعون إلى مخازن لأصدقاء لهم أو يتركون كل شىء ويهربون إلى مطار القاهرة الذى كان يشهد حالة رحيل جماعى لمصريين وعرب وأجانب، وكان الوفد الصينى ينتظر الافتتاح.
وكان معرض القاهرة الدولى للكتاب قد تحدد افتتاحه صباح السبت، وألغى المعرض لتبدأ سلسلة من الإلغاءات لكل الأحداث وتُقال الحكومة، وتبدأ أحداث متعاقبة ما بين تمكن للإخوان من إدارة الشارع والميدان، وظهور لكل المتآمرين ويتحول ميدان التحرير إلى ميدان منافسة بين الأجهزة الأجنبية، وبدأ صقور مصر فى رصد كل حركة ومتابعة كل ما يحدث وتوثيقه، وهى مرحلة من أخطر مراحل العمل الأمنى سوف يكشف عنها التاريخ يومًا ما، ومن المؤكد أنها ستكون هادئة، ورغم ما تكشف من أجزاء من المؤامرة التى دبرت لمصر، إلا أن ما خفى كان أعظم بكثير.. أسبوع الأحداث الساخن الذى بدأ بحريق القاهرة انتهى بمعركة الجمل، أحد مشاهد المؤامرة التى نفذت ودفع ثمنها شباب كثيرون وسياسيون دخلوا السجن على ذمة قضية وصفت بأنها قضية قالوا له لم يكن هناك شاهد قد رأى الحقيقة أو سمع التكليفات، ولكن الجميع كان يروى الأحداث بطريقة العنعنة.. عن فلان عن فلان أنه حكى وقال وشاهد. هذا الأسبوع الساخن الذى أدارته الحكومة حينئذ بأسوأ إدارة، وأدارته الإخوان والمتآمرون بشكل ذكى أتى بعده القرضاوى إلى ميدان التحرير، ليعيد للأذهان مشهد الخُمينى وليقبل يديه إعلاميون نعدهم كبارًا ويُطرد وائل غنيم، أحد صور المؤامرة من الميدان، ليخرج باكيًا للمرة الثانية بعد بكائيته الشهيرة فى برنامج منى الشاذلى ولتظهر القيادة الحقيقية لميدان التحرير، ويجلس قيادات الإخوان مع عمر سليمان ويخرج من تبقى منهم من السجون إلى مجلس الوزراء ومكاتب الاتحادية، ليدخلوا فى مفاوضات مع حكومة ضعيفة وبقايا نظام انتهى قبل أن تبدأ المؤامرة فى الظهور. أستعيد أحداث هذا الأسبوع وأنا وربما أنت فى معرض القاهرة الدولى للكتاب.. رغم ما قد يبدو من مظاهر لا تشير إلى الصورة التى نريدها للمعرض، إلا أنك وأنت تسير فى معرض القاهرة وسط آلاف الشباب والأسر والأطفال.. تسير فى أمان تبحث عن كتاب أو ندوة أو حفلة.. هذا المشهد فقط ألا يكفى أن نتحمل وأن نشكر الله وأن نعترف بالفضل لرجال قدموا حياتهم ثمنًا لهذه اللحظات.. وأنت قادم من ميدان التحرير أو من نهاية محطة الجيزة حتى أبواب المعرض تركب مترو الأنفاق فوق السطح فترة وتحت الأرض مسافات. قطار يسير بالكهرباء التى خاصمتنا أعوامًا.. متضايق من بعض الزحام ولكنك ترتدى ملابس ثقيلة.. تملك نقودًا تشترى بها كتبًا.. تصطحب أصدقاءك إلى ذلك العرس الثقافى.. ألم تستعد لحظات كنت تقدم ساعتك وتليفونك وما معك من نقود إلى بلطجى ينتظرك أمام سلم المترو وقد تدفع حياتك لو تأخرت فى التنفيذ؟.. ألم تشاهد فى ليلتك السابقة على شاشات التليفزيون وأنت جالس وسط أسرتك تحتمى من البرد بالتكييف الساخن ولمّة الأسرة، ألم تشاهد طوابير السوريين الفارين من عفرين ومنبج، بعد أن كانوا قد التمسوا أيامًا من الهدوء، وغيرهم ما زال فى ترحال يومى تحت طقس قاتل وظروف من أسوأ ما تكون يلتمسون لحظة دفء أو وجبة شبه ساخنة يفقدون كل يوم ابنًا أو ابنة أو أبًا أو أمًا.. قارن وفكر وقرر.. ألا يكفى ذلك أن تسجد شاكرًا لله معترفًا بفضل رجل استطاع ومعه أبطال من صقور المخابرات ورجال القوات المسلحة وأبناء الشرطة أن يحافظوا لك على هذه الرحلة الآمنة.. وأنت مار بميدان العباسية، ألم يتداع لذكرياتك مشهد رجال حازم أبوإسماعيل وهم يحاولون قتل كل من يواجههم محاولين الوصول إلى وزارة الدفاع حيث تلقوا درسًا لن ينسوه من الرجال الذين يحمون المقر. وأنت عائد من المعرض بعد يوم قضيته رأيت واشتريت واستمعت وتثقفت وعشت يومًا تختزنه ذكرياتك، وبعد أمتار قليلة لعل الذاكرة تنشط وتعيد لك ذكريات رابعة وما أدراك ما رابعة، ومنصة رابعة ومغاوير الإخوان يهددون بالحرق والقتل.. ويحدثونك عن صلاة للأنبياء يؤمهم مرسى وظهور لجبريل يدعمهم فى الميدان، ويدعوهم للثبات وهتافات للقدس إنهم إليها ذاهبون بالملايين. وما بين رابعة والنهضة ذكريات طويلة وكثيرة لعلها تمر أمامك الآن، وأنت تمر بالميادين وقد تحولت إلى ميادين عادية آمنة تسير فيها ليلًا، كما تسير فيها نهارًا.. هذه المشاهد تدفعنا لنتأمل الواقع الآن أمس الأول كان الرئيس فى بورسعيد يتابع حقل ظُهر للغاز، أحد ملامح الأمل فى مستقبل أفضل.. وقبل ذلك عشرات الافتتاحات فى كل أنحاء مصر من حلايب وشلاتين إلى العلمين والضبعة.
مصانع تعود للعمل بعد توقف سنوات.. منتج مصرى يعيد لقاء ذكريات الصناعة وشعار صنع فى مصر.. صحراء تشق بمئات الكيلومترات من الطريق.. مدن جديدة تنشأ وتستقبل آلاف الأسر والشباب منتجعات فى الجلالة وجامعات فى سيناء.. حلم العاصمة الإدارية يتحقق ويصلى الأقباط صلاة عيدهم فى الكاتدرائية الجديدة التى شُيد أكثر من ٥٠٪ منها خلال عام واحد.. يجاورها أكبر مسجد فى مصر.. مشاهد يومية تؤكد لك أن القادم أفضل وأن الأسوأ والأصعب قد مر.. نعم نحن فى طريقنا إلى مرحلة جنى الثمار، ولكن الطريق ما زال يحمل بعض الصعاب، وهناك قضايا لم تُحسم، هناك بقايا إرهاب فى سيناء فى منطقة كيلومترات محدودة سينتهى يومًا وقريبًا ولن يتوطن فى مصر، كما قال أو أراد سامى عنان.. هناك آمال وليدة وملامح مستقبل رسمت وتتحدد وتتضح كل يوم، وليست سقوطًا وانهيارًا وترنحًا، كما يقول ويتمنى الإخوان.. هنا مصر الجديدة تولد وتنمو وتقف شامخة بجيش من أفضل جيوش العالم، ورجال وشباب على استعداد لتقديم كل الغالى من أجل المستقبل الأمنى. نعم هناك قضايا لم تُحسم بعد، حياة سياسية لم تتكون بشكل صحى بعد.. إعلام يحاول العودة إلى دوره السابق فى تشكيل وعى الأمة، لا تغييب هذا الوعى.. مؤامرات تُرسم وحروب نتعرض لها، ولكن الشعب الذى عاش الصعاب وذاق مرارة حكم الإخوان يعرف جيدًا أن ما قدمه من تضحيات وما سوف يقدمه أيضًا قليل جدًا لو قارناه بما حدث فى مناطق أخرى، وما كان سيحدث لنا لولا ثورة الشعب فى ٣٠ يونيو ودور الجيش والشرطة.. وأنت عائد من معرض الكتاب تحمل ما اشتريت من كتب وتختزن ما استمتعت به وتمسح من ذاكرتك كل المشاهد التى كنت تمر بها أو تتخيل أنك كنت ستمر بها.. تذكر جيدًا أن استكمال رحلتك والحفاظ على مكتسباتك يترجمه وقوفك فى طابور الانتخابات لكى تضع صوتك ومعه حلمك فى صندوق الانتخابات، لترسل رسالة للعالم كله بأن مصر قد بدأت طريق المستقبل، وأن قطار الربيع الأسود توقف وأن قطار الأمل والمستقبل قد انطلق.. تذكر.. وفكر.. وقرر.. المستقبل نصنعه معًا.