رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

.. وانتهى الربيع الأسود


ما بين صعود عنان إلى سلم الطائرة فى القاعدة الأمريكية مساءً عائدًا إلى القاهرة، التى كانت قد اشتعلت بنيران المظاهرات والإخوان والعملاء، وما بين صعوده إلى سلم مكتب التحقيق معه حول مخالفات أسندت إليه بعد بيان القوات المسلحة.. سنوات سبع، رحلة لا تكون طويلة فى أعمار الدول والشعوب، ولكنها كانت طويلة وطويلة جدًا على الشعب المصرى.

ما بين الصعودين جرت أحداث كثيرة دفع ثمنها مئات الشباب من ضباط القوات المسلحة والشرطة وأفرادهما، بل قياداتهما وأيضًا شباب طاهر غرر به يوم خرج لينادى بالعيش والحرية والعدالة الاجتماعية.. سنوات سبع بين أن أمسك بالقلم لأكتب هذا المقال، وبين وقوفى فى الدور التاسع بمبنى ماسبيرو بعد صلاة الجمعة يوم ٢٨ يناير، ونحن نتابع من غرف عمليات الأخبار وتليفونات الأصدقاء ما يجرى فى ميدان الجيزة، الذى خرج منه البرادعى، ومن أمام مسجد الاستقامة، حيث يقف محافظ الجيزة ومدير الأمن ليتابعا المسيرة، التى بدأت بعد الصلاة، وبين ما يجرى فى السويس وإمبابة والقائد إبراهيم.. خمس ساعات بعد صلاة جمعة ٢٨ يناير تحولت بعدها القاهرة إلى كتل مشتعلة، كان الطوفان القادم من على كوبرى ١٥ مايو يلتقى القادمين من شبرا والساحل وتتراجع أمامه قوات الشرطة غير المسلحة التى لم تطلق سوى قنابل الغاز، وكنا نتابع من نوافذ مكاتب الدور التاسع ما يحدث من مواجهات فوق كوبرى قصر النيل، وما بين هذا وذاك اندلعت الحرائق فى مبنى الاتحاد الاشتراكى القديم على كورنيش النيل، حيث كان المتظاهرون يشعلون النار فى الأدوار المخصصة للحزب الوطنى، وامتدت النيران ليشتعل المبنى بالكامل ويقتحمه المتظاهرون لينهبوا ما فيه، وما زالت صور بعضهم وهم يحملون كراسى المكاتب والمراوح موجودة فى أرشيف وسائل الإعلام.. كان المشهد يعيد لأذهانى ذكريات حريق القاهرة فى يناير ٥٢.. كانت المشاهد تتداعى أمام الذاكرة ومن الواقع لتؤكد أن السيناريو واحد وأن الفاعل واحد وإن اختلف المنفذون، وأن ما يحدث من حرق للأقسام وسرقة للمحلات التجارية ونهب وقتل، ليس من المعقول أن يقوم به شباب حلمه التغيير.

لو عددنا المشاهد والمقارنات فإنها بالآلاف، ولو عددنا التضحيات أيضًا فهى بالآلاف أيضًا.. السنوات الثلاث ما بعد يناير والسنوات الأربع مع السيسى سيكتب عنها التاريخ كتبًا كثيرة، وستكشف الأيام لنا لو تحدث كل الشهود عما حدث ودبر.. من كان فى التحرير؟ ومن أطلق النار على الشيخ عفت؟ وما قصة فتاة العباءة ذات الكباسين؟ ومن قتل لواءات الشرطة ومن اغتال النائب العام؟ ومن حرق الكنائس والأديرة؟ من سرق ونهب السلاسل التجارية؟.. ومن قبض ثمن ذلك كله.. النخبة التى اكتشفنا تزييفها؟ أم مدعو الدين الذين قتلوا أبناءنا فى سيناء وفى الواحات؟.. من قبض ثمن محاولة تدمير مصر ومحاولات إسقاطها، الهاربون إلى تركيا أم القاطن فى النمسا ودول أوروبا أم حكام قطر وتركيا.. أم خونة آخرون لم يكشف الستار عنهم بعد؟!.
سنوات سبع بدأت بالربيع الأسود ومن دفع الثمن سوى الشعب المصرى الأصيل دفعه من دماء أبنائه الشهداء.. دفعته الأم الثكلى التى فقدت أو قدمت أبناءها فداء للوطن.. دفعته الأم الثكلى التى استشهد وحيدها وهو ملازم شاب.. دفعته الخطيبة التى كانت تنتظر ليلة عرسها.. دفعه الأب الذى فقد سنده وأمله.. دفعه ويدفعه أبناء قدر لهم أن يحرموا من عطف الأب وحمايته.. دفعه الوطن كله بمصاعب وحياة صعبة ومواجهة لأزمات تلو أزمات.. وما بين من قبض الثمن ومن دفعه.. عادت مصر بعد السنوات السبع التى بدأت بالربيع الأسود لتبدأ البناء فى ربيع حقيقى.. عادت مصر لا لتبنى الوطن فقط، ولكن أيضًا لتقف فى وجه قطار الربيع وتضعه فى حجمه الطبيعى وتمد يدها إلى الأشقاء، دفاعًا عن حقوقهم ومساندة لهم فى استعادة أوطانهم.

ملامح الصورة لم تكتمل بعد، وما زال هناك من يكمل اللوحة وما زال أيضًا هناك من يحاول تدميرها.. والأمل اليوم وكما كان دائمًا هو الرهان على الشعب المصرى الأصيل الذى دائمًا كان عند حسن الظن.
سنكمل ملامح لوحة الغد والبداية من صندوق الانتخابات، الذى سنذهب إليه قريبًا ونحن فى أمن وأمان.. سنذهب إليه بالأمل فى الغد.. سنذهب إليه لنكمل المسيرة مع من بدأها ومع من وضع ملامح اللوحة الجديدة.
سنطوى صفحات السنوات السبع بعد قراءتها جيدًا.. وسنحتفظ بقطار الربيع الأسود فى المتحف الذى يضم آثار لويس التاسع عشر ودبابات عساف ياجورى وبقايا ملابس الجنود الإنجليز وغيرها.. وسنحتفظ أيضًا بالصورة التى كانوا يعدونها لمصر والسيناريو المكتوب بأيديهم معهم فى سجونهم، ليحاسبهم الشعب وليحاسبهم الله على ما قدموا لمصر.
سنكمل ملامح اللوحة القادمة بالعمل والأمل، وسيؤكد الشعب المصرى يوم يخرج إلى صناديق الانتخابات، أنه صاحب القرار، وأنه مع من أعاد له الأمن وحافظ على الوطن.