رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

اذهبوا إلى الجحيم


رحم الله سلطان العلماء العز بن عبد السلام الذى أصدر حكما فى مصر ببيع الأمراء المماليك، فاستشاط الأمراء غضبًا وأوغروا صدر السلطان على الشيخ العز، فاستدعاه وأغلظ له القول، فما كان من الشيخ العز إلا أن حمل متاعه على حمار وأركب عائلته

على حمار آخر ومشى خلفهم خارجًا من القاهرة قاصدًا الشام، فلما رآه أهل القاهرة خارجًا منها تسارع معظمهم خلفه رجالاً ونساءً، وخرج معه العلماء والصالحون والتجار، فبلغ الخبر السلطان وقيل له : متى خرج الشيخ العز ذهب مُلكك، فركب السلطان بنفسه واسترضاه وطيب قلبه وترجاه من أجل العودة، فوافق بشرط أن يتم بيع الأمراء المماليك .

كان العز بن عبد السلام سلطان العلماء، قال المؤرخون عنه هذا، وكانوا على حق، فهل سيكتب المؤرخون فى مستقبل الأيام عن مصرنا هذه فى أعوامنا هذه، ويقولون عن علمائنا، كانوا علماء السلطان ؟!! الإجابة عند العلماء، والعلم عند الله وحده، أعرف أن معظم من يُقال عنهم علماء وفقهاء سيقولون تبريرا لتقبيل أعتاب السلاطين وهم يكذبون على أنفسهم: إنما كنا نحتال للحق وهم يحتالون على الحق أو كانت لدينا ضرورة والضرورات تبيح المحظورات، تبا لكم أكُلَّ دينكم ضرورات !! أصار الجهل والنفاق عنوانا لمن يدَّعون العلم والفقه؟ دعك الآن من هؤلاء الشيوخ، ودعك من المهاويس من أتباعهم، ولا تغرك كثرتهم حتى ولو أصبحت كثرتهم تسد عين الشمس فرب العزة يقول ( وإن تطع أكثر من فى الأرض يضلوك عن سبيل الله ) ويقول ( ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) ولكن يا سيدى وحبة عينى أيها القارئ صاحب الفهم، أدر وجهك عن هؤلاء، فسيأتى وقتهم، وانظر لشاشات الفضائيات وعذرا إن اقتحمت عينيك صورة أحدهم وهو يعبس بوجهه ليبدو عميق الفكر وهو خَلى، تراه منفعلا فى غير مشكلة وفى المشاكل يبدو غير منفعلِ، فإن سألت من هذا قالوا لك : هذا فقيه دستورى، أنعم وأكرم، وهل أصبح الفقيه الدستورى فى زمننا إلا مهنة لها اشتراك وكارنيه ووجه مقطب، ثم سرعان ما يبدأ الفقيه كلامه بـ إحم إحم، كأنه سيدخل علينا غرف النوم، ينقصه فقط أن يقول يا ساتر، ثم سرعان ما يخرق آذاننا بكلام من عينة «فى الواقع» وواقعه هنا من الوقوع قطعا.

سأضرب الصفح عن العاديين من الفقهاء، فأى عادى ولد فى يوم عادى ثم أصبح فقيها دستوريا فى يوم عادى، ولكن هل يجوز لى أن أضرب الصفح عن الكبار، أولئك الذين كانوا لنا مثلا وقدوة، ثم عندما مرت عليهم الدنيا أصبحوا فقهاء السلاطين، وأعوانه، ورجاله، وسلطته التنفيذية، وها هو أحدهم كان فى ظنى أنه أحد أهم من يجب أن يـُقتدى بهم، وآه من صدمتى فيه، كان هذا الرجل قيمة عندنا، فأصبح قيمة عندهم، وقف ضد طغيان حاكم لا لحية له، ثم وقف يدافع ويذب عن حوض حاكم مستبد بلحية، وكأن اللحية هى العدل، وعندما وزره الحاكم من الوزارة والوزر أصبح جالسا عند عتبات هذا الحاكم يسترجى رضاه، حوصرت المحاكم فأغمض عينيه، شتموا القضاة والقضاء فلم يرمش له جفن، أهين القضاء عشرات المرات فغفل عن الإهانات وكأنها من المكرمات، أقال الحاكم النائب العام مخالفا كل القواعد والقوانين والدساتير فابتسم له ولم يعقب، أصدر الحاكم إعلانات دستورية تعتبر فى حكم القانون جرائم، فبررها له وسكت، عين نائبا عاما جديدا بالمخالفة بطريقة مخالفة لكل القوانين والأعراف، فوضع لسانه فى فمه وقام برفع شعار «لا أرى لا أسمع لا أتكلم» ثم أخذ يمد للحاكم المستبد سماط الحكم، وبعد أن قام بالدور المطلوب منه على آخر وجه هيئ له خياله، واعتقد ذكاؤه أنه يستطيع أن يسترد ما ضاع من تاريخه واسمه، فتقدم باستقالته، وزعم أنه يستقيل لأنه يحتج على مذبحة تتم للقضاء، وهو لا يعلم أن من سقط اسمه ووقع تاريخه فى الوحل فإنه لن يعود أبدا، سيظل التاريخ يذكر له أنه هو الذى مهد الطريق للمذبحة، فات أوان الاستقالة يا سيادة المستقيل .

الآن يعف قلمى عن ذكر اسمك، فبعد أن كنت مثلا لنا أصبحت أمثولة، وبعد أن كنت مدرسا لنا أصبحت درسا نتصعب عندما نتذكره، سأظل عمرى أحتقر أفعالك، ولن أحترم استقالتك، ومن الآن سأكسر قلمى، وسأضع لسانى فى فمى، فقد اختلطت المعايير ومات العلماء، سيضيق صدرى ولا ينطلق لسانى عندما أرى فقهاء القانون الذين هم على شاكلتك وهم يطأطأون رؤوسهم لحاكم مستبد، ويركعون ليركب هذا الحاكم على ظهورهم حتى يصل إلى مبتغاه، وهم يقولون له : ركوب جنابك على ظهورنا شرف لنا، أما القانون فسنطبخه لك مسلوقا إذا أردت، ودسما إذا أحببت، لن ينفلت لسانى وأنا أرى أشباهك وهم يتحدثون عن الشرف ولا يمارسونه، ويخطبون عن الحق وهم يخنقونه، وفى ظل جو فيه احتراب مصنوع من حاكم وجمهرة من إخوانه العبيد، سيقلب من سار على نهجك البديهيات، فيحل الحرام ويحرم الحلال، أنت وضعت سُنـَّة سيئة يا من وزروك علينا، أنت إمام كل من سيأتى بعدك، لن يخجل أحد التابعين من اقتفاء أثرك، فها أنت الذى كنت نجما فى سماء القضاء، أصبحت غما على دنيا القضاء، أفلا يكون من كانوا أقل منك قدرا وقيمة، مثلك فى جعل القضاء فى يد الإخوان رهينة، ولما لا وقد ظهر معك وسيظهر بعدك وزراء يعدون لسيدهم الحاكم الوليمة، وفقهاء تحت الطلب وهم يجادلون، ويثأثأون، ويفتون بغير علم، أفٍ لكم وما تعبدون