رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

دين الإخوان.. « 1/2»


جماعة الإخوان ليست مذهباً دينياً، ولكنها «جماعة سياسية دينية» تضع هذا على ذاك على ظن منها أن الإسلام طالما أنه دين شامل فإن التنظيم الذى يرفع رايته يجب أن يكون شاملا، فالإخوان إذن تمسك طرفاً من السياسة، وتمسك طرفاً من الدين،

وهى إذ تمسك طرفاً من السياسة تصبح حياتها كلها تتمحور حول الحكم، وحين تمسك طرفاً من الدين نجد أن دينها كله يتمحور حول الحكم أيضاً ولا ينفك عنه قيد أنملة وكأن الدين عندهم أن يحكم الإخوان، ولذلك فإن دين الإخوان هو الحكم ولا شىء غيره، فإذا تركنا السياسة جانباً فكيف هو دين الإخوان المذهبى وما هى خياراتهم الفقهية ؟ الباحث فى تاريخ الإخوان يعرف أن حسن البنا درس المذهب الحنفى وعاش فى كنفِ المذهب الحنبلى، ثم رفع لنفسهِ شعاراً يخرج بـه مـن نطاق المذهبيةِ هـو «فلنعمل فيما اتفقنا عليه وليعذر بعضُنا البعض فيما اختلفنا فيه»..

كان هذا هو حسن البنا رجل المذاهب كلها، أو على الأرجح رجل التوفيق بين المذاهب، لذلك لم يعرف أحد على وجه الدقةِ أكان فى العقيدةِ من أهل السلف أم كان من أهل الخلف (الأشاعرة ) وهل كان فى الفقهِ حنبلياً أم حنفياً، لأنه كان يجمع بين هذا وذاك بما يتناسب مع مشاربهِ وبما يستريح إليه قلبُهُ، ولو غير حسن البنا من مسارهِ لكان من المُقدّرَ أن ينكفئ على البحثِ والفقهِ إلا أنه آثر أن يصنع تنظيماً.

أما عن تنظيم البنا ذلك التنظيم الإخوانى العتيد فقد كان خليطاً بين المذاهب كلها فقد جمع بين الحنفى والشافعى، وضم الحنبلى مع المالكى، وتجاور فيه السلفى مع الأشعرى وجلس بينهما الصوفى، وارتفع فيه شأنُ من ينادى بالتقريب بين السنة والشيعة وشأنُ من يقول بوجوب محاربة الشيعة.

لا يستطيع باحث مهما حاول أن يعرف ملامح الأفكار الدينية المذهبية لعدة آلاف من البشر تنتظمهم جماعة سياسية ذات طابع دينى ظاهرى، لأن الجماعة ليست مذهباً، وبالتالى ليس بالضرورة أن يتفق كل أفراد الجماعة فى الأفكار الدينية، ومع ذلك فإن الأفكار الدينية التى تتبناها الهيئة الحاكمة لهذه الجماعة تصبح هى الأفكار الرسمية للجماعة حتى ولو كان خيار بعض الأفراد فى داخلها يختلف مع الخيار الرسمى.

الأفكار الرسمية للجماعة فى السالف فى زمن حسن البنا كانت تتجه نحو التيسير وفقاً لواقع المجتمع المصرى وقتها، كانت الفنون عند الجماعة مباحة بل سعى الإخوان إلى إنشاء مسارح، ولم يكن لديهم حرج من الموسيقى والغناء بل كان هناك من قيادات الجماعة من يتقن العزف على الآلات الموسيقية، كان الشيخ محمد الغزالى يعزف على البيانو وكان الأستاذ عمر التلمسانى يعزف على العود ويسمع الأغانى وكذلك الدكتور يوسف القرضاوى بل كان هذا الأمر هو المزاج العام للجماعة، كما كانت اللوحات الفنية تزين حوائط بيوت الإخوان والصور الشخصية تجد لها مكاناً بارزاً فى الحجرات الرئيسية لبيوت الإخوان وقادتهم، لم تكن مسألة تحريم الرسم على إطلاقه مطروحة للمناقشة.

وعلى الجانب الإنسانى والاجتماعى لم يفرض الإخوان فى عقودهم الأولى على نسائهن الحجاب، بل كانت شقيقة حسن البنا لا ترتدى الحجاب وإن كانت محتشمة فى ملابسها مثلها مثل المصريات وقتها وكانت صور الأخوات المحتشمات غير المحجبات تملأ مجلات الإخوان دون أن يكون هذا الأمر محل خلاف بينهم، ومن الغريب أن كثيراً من الإخوان كانوا يشربون الدخان ـ سجائر ونرجيلة ـ وظل الأستاذ عمر التلمسانى يشرب السجائر حتى قبل موته بفترات دون أن يجد فى ذلك غضاضة، وإذا كان الشىء بالشىء يذكر فإن الشيخ الشعراوى رحمه الله ظل يشرب السجائر إلى أن اضطر للإقلاع عنها وفقاً لنصائح الأطباء بسبب الأزمات الربوية التى كانت تهاجمه.

وعن الاقتصاد وأبوابه نجد أن الإخوان كانوا - فى حقبتهم الأولى - مثل كل المصريين يتعاملون مع البنوك ولا يحرمون فوائدها بل يفتحون الحسابات فى معظم البنوك حتى ولو كانت أجنبية، وأيضاً كان شراء سندات الخزانة بفوائدها من وسائل استثمار الجماعة لمالها، وكانت وثائق التأمين على الحياة من الأمور التى يقبل عليها الإخوان ببساطة دون ممانعة من أحد .

كان الشىء الوحيد المذهبى الذى اتجهت إليه الجماعة فى طورها الأول هو «الراية السياسية للمذهب الوهابى الحنبلى» حيث كان عبد العزيز آل سعود يعد عدته لإقامة دولة إسلامية فى الجزيرة العربية وكان لابد لهذه الدولة أن يكون لها مرجعية فكرية فكانت الوهابية بصورتها الحنبلية هى تلك الراية الفكرية وكان حسن البنا يمجد عبد العزيز آل سعود بحسب أنه هو الشخصية المؤهلة لإقامة دولة إسلامية تستعيد أمجاد دولة الخلافة وتعيدها إلى الوجود، ولكن البنا وقتها كان يتمذهب سياسياً - لا فقهياً - بالحنبلية وظلت خيارات الإخوان الفقهية تسير على ما يسير عليه المصريون، يغلب عليهم المذهب الحنفى أحياناً والشافعى فى بعض الأحيان والمالكية فى صعيد مصر .

ولكن لا شىء فى الإخوان يظل كما هو، وما كان مباحاً بالأمس أصبح محرماً اليوم وما كان بديهياً بالأمس أصبح مستنكراً اليوم، كانت بداية التغيير حين هرب الإخوان أفراداً وجماعات من مصر إبّان الحقبةِ الناصرية واستقروا فى المملكة السعودية، وحين خرج الإخوان الآخرون من السجون فى السبعينيات لحقوا بإخوانهم الذين سبقوهم للحجاز، بدأت حينها معالم فكرية ومذهبية تتشكل لفريقٍ عريضٍ من الإخوان تتجه صوب الحنابلة وتنهل من محمد بن عبد الوهّاب صاحب الوهّابية الحنبلية لا من حيث الراية السياسية ولكن من حيث المرجعية الفقهية .

ورغم أن المذهب الحنبلى فى مصر لم ينل حظاً بين المسلمين ولم يحظ بشيوعٍ بين العامةِ رغم أنه عكس ما يشاع عنه كان أخف المذاهب فى المعاملات كالبيوع والإيجارات وما إليها، إلا أن الحنابلة رغم تيسيرهم فى المعاملات كانوا أشد المذاهب فى العبادات ومحاربة البدع حتى أرهقوا الناس أيما إرهاق، وتوسعوا فى تفسير البدع بما يغلق الباب أمام الاجتهاد، والغريب أن فقهاء الإخوان - إن كان لديهم فقهاء جدلاً- تشددوا فى الدين مع الناس لا مع أنفسهم، إذ إن خياراتهم الفقهية المتشددة تخرج من أفواههم وكأنها طلقات رصاص فى مواجهة بنى البشر، ولكنهم رحماء بينهم، وكأنهم يعيدون من حيث التطبيق قصة الرجل الطيب الذى ذهب لشيخ المسجد يسأله عن كلب تبول على جدار بيته، فقال الشيخ: يهدم الجدار ويبنى سبع مرات، وحين قال له الرجل الطيب : إنه الجدار الذى بين بيتى وبيتك فما كان من الشيخ إلا أن قال « قليل من الماء يطهره