رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

"وائل سعيد" يناقش إشكالية "البحث عن الفردوس المفقود" في "علي حافة الكوثر"

حافة الكوثر
حافة الكوثر"

يلجأ بعض البشر الي الدخول للمصحات النفسية –مرغمين- عندما يفقدون القدرة علي التواصل؛ محض (شعرة) جميعنا عالقون بها، في محاولة لاستعادة التوازن مرة أخرى مع الحياة، التي يعتبرها البعض أيضا الفردوس الآني، الملموس.. وعصفور في اليد خير من ألف هناك، في العالم الآخر..
حول تلك الشعرة يكتب حسين الصحفي الشاعر، راوي (حافة الكوثر – لعلي عطا) الصادرة عن الدار اللبنانية، لصديقه طاهر المقيم خارج مصر.. عن طريق رسائل الايميل والفيس بوك، عن تجربة البطل في محاولة استعادة التوازن الحياتي، يوميات متشظية وبرجرافات معظمها غير منتهٍ، لتأكيد حالة عدم التواؤم التي يعيشها الراوي.
الزمن غير ممسوك بالمعني الحرفي، قد تحدث لك الأعاجيب في غفلة منك وفي لمح البصر؛ فيتزوج حسين من سلمى علي زوجته الحاجة في غفلة كتلك، ومن ثم يصارع تبعات هذه الغفلة فيما بعد، عندما يعود لحالة توازنه مع الحياة، والشاعر في الرواية لا يبحث سوى عن هذا التوازن، الذي قد يريحه في سنواته المتبقية بعد أن أصبح جد، وقد ينهي روايته الأولي أيضا من تراكم رسائله إلى طاهر.
تتناص الرواية التي يكتبها الشاعر –الراوي- مع رواية عطا الأولي هي الأخرى، بذلك يقدم الكاتب نوعًا مغايرًا من كتابة السيرة الذاتية وموروثها الثقافي الشرقي، أو العربي في مجتمعات العالم الثالث، التي تعتبر كتابة السيرة الذاتية عيبًا، لا يصح فعله، في حين قدمت اسماء عالمية مخلدات أدبية في صورة اعترافات صريحة أو سير ذاتية!
مواقف الرواي في الرواية قليلة الي حد ما، يسيطر عليها منهج الشعر في التكثيف والتركيز، وتدور بين أحلام الرواي، وفترات تواجده في حافة الكوثر، وأيامه التي يفيق فيها فلا يجد سوى تبعات يحصد مردودها، الأمر الذي يجعل العالم الحقيقي غير (ممسوك) ولا يرتكز على شيء سوى بعض الأوراق الحكومية؛ كقسيمة زواجه، أو شكوى قدمها لرئيس الحي فيما قبل أو بعض الخطابات، بجانب ذكريات الطفولة التي تنتابه من آن لآخر، فيستعيد بلدته وجو الريف.
لهذا فقد تم توظيف (التوثيق) في الرواية ليؤكد هذه الحالة؛ لاوعي الراوي لا يجد أمامه سوى الرجوع الي (تأريخ) جمعي لسد الفجوة بين تاريخ الراوي الهش.. لتدخل في انسابية معلومات عن شارعهم وبعض الشخصيات التاريخية والممثلين، في محاولة لدمج عالم حسين (غير الملموس) بأحداث موثقة تحمل ثقل التاريخ.. كما ساعد تقديم وتأخير الأحداث؛ في ترسيخ عدم استقرارية الراوي النفسية.
الشخصيات داخل حافة الكوثر يتم طرحها وسط حالة (نواحية) علي مصائرهم؛ الابن الذي يعثر علي فيديو لزوجته مع رجل آخر، يتضح أنه أبيه الذي يودعه في الكوثر خوفًا من الفضيحة، الشخص المتشكك دائما في طهارة وضوئه، بين إن كان التدخين ينقض الوضوء ووسوسة دائمة تأتيه في صلاة الجماعة بأنه أخرج ريحًا، فيخرج ليتوضأ من جديد..
لا توجد حكاية بالمعنى المعروف؛ فكثير من الشخصيات العابرة علي طول الحكي، لا تفعل شيئًا في الأحداث تقريبًا، لكنها تفتح أفقا للسرد ومساحات تخيلية تأخذك خلف حياة كل شخصية وتفصيلات رحلتهم من وإلى الكوثر.. حتى طاهر نفسه؛ الصديق الذي يتم الاتصال به افتراضيًا عبر واقع افتراضي علي إرث معرفة قديمة بينه وبين الراوي.. تحمل رسائله للرواي هي الأخرى أفقًا باستدعاء روايات علي سبيل المثال أو أفلام أو شخصيات أخرى: (رسالة من الطاهر بتاريخ 12/5/2015 "أنت إذًا تدرك ما الجوهر، فالأمر ليس مجرد ولع بشهرة، أو وسيلة للارتقاء الاجتماعي، بل هو الكتابة كموقف من العدم، أو كما تشير أنت متماهيًا مع خاتمة رواية ايزابيل الليندي/ صور عتيقة، خلاص للذات عبر الكتابة، فأكتب")..
وعلي طريقة امبرتو ايكو في العلامات؛ لنتأمل شخصية طاهر –في اسمه- خاصة والراوي يناديه في بعض الأحيان (بالطاهر) معرفًا بالألف واللام، وأمر (أكتب) الذي يكلف به حسين، وقد ورد في قاموس المعاني بأن أصل الاسم، حسين، هو عربي يسمي به الطفل الذكر تصغير الاسم "حَسن" وهو كذلك الجبل العالي، هذا الجبل العالي الذي ينتظر المداد من الطاهر، ويحكي له عن تجربة الكوثر عبر الرواية، ويمكن تحميل اسم الزوجة (دعاء مستجاب)؛ أشياء أيضًا من هذا القبيل، علي طريقة ايكو.
علي جانب آخر، تقدم الرواية عالم مختلف عن خلفية "بلاط صاحبة الجلالة".. مغايرة عن الصورة النمطية لعالم الصحافة، الرواي مراسل لوكالة عصرية ويستخدم مفردات الحياة التكنولوجية، يشترك في المعارك والصراعات أحيانًا مع زملاء العمل، بمفردات جديدة، عبر الهواء، تعكس عدم وجود فكرة جمعية أو منهج مشترك فيما بينهم، وهو روح العصر الحديث بأي حال؛ نستطيع أن نجمع الملايين بالليكات والمنشورات.. لكنا نسبح في عالم افتراضي غير ملموس!
في النهاية أجد أنه من غير الإنصاف حصر فكرة حافة الكوثر في رصد تداعيات ثورة يناير علي المجتمع المصري، حيث جاءت ثورة يناير في الرواية ضمن شخصيات الكوثر العابرة، حملت بذكرها أحداث متشعبة لفترة الثورة عايشها مختلفة كل فرد عن الآخر..
ولعل التغريب الإنساني بمفهومه الحديث كان هو الهم الأشمل في الرواية، كما صنعت فصولها القصيرة الـ (25) ما يمكن أن يُقارب القصيدة الطويلة؛ حيث الشعر يأتي من منطقة تشكيلية أخرى، معنية هذه المرة بالتفاصيل غير المنتهية، والمبتورة في كثير من الأحيان، رواية أولي لشاعر قديم، تقف بنا على حافة الكوثر، فلا نعود!!