رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مكانة مصر الإفريقية والمستقبل


على امتداد التاريخ أولت مصر دائمًا إفريقيًا اهتمامًا خاصًا.. باعتبارها القارة الأم وباعتبارها الامتداد الحقيقى للأمن القومى المصرى.. محمد على أرسل جيوشه وبعثاته إلى منابع النيل.. فقد كان يعلم جيدًا أن من يسيطر هناك بقواته وأيضًا بعلمائه وعطائه..هو الذى يضمن أمانًا لمصر.. أمانًا اقتصاديًا قبل أن يكون أمانًا عسكريًا.. وما بعد محمد على، ومع تراجع دور مصر.. وصلت الأمور حتى حدود السودان، بل وصل الوضع إلى تنازع حول مدن مصرية داخل حدود مصر.



تصور «البشير» أنها سودانية وكلما ضاق به الحال عاد وطالب بها ولوح باللجوء إلى التحكيم الدولى لإعادتها.. وعندما جاء عبدالناصر للحكم وضع إفريقيا فى مكانتها الحقيقية.. نعم صدّر لها الثورات وعلم شعوبها الحرية.. وبدأت الدول تعلن استقلالها وتأسست منظمات إفريقية، وهو أيضًا عرف كيف يصل إلى إفريقيا.. فكانت مكاتب شركة النصر للتصدير والاستيراد لا تخلو منها عاصمة إفريقية.. وكان الاهتمام بالسفارات المصرية له أولوية خاصة.. لم تصنف كسفارات درجة ثانية يعاقب من يرسل إليها.. وذهبت وزارات التعليم والرى إلى أعماق إفريقيا لتقام المدارس المصرية وتحفر الآبار لتقام حولها القرى التى تدين لمصر بإنشائها.. لم يبخل عبدالناصر على إفريقيا بشىء.. فذهبت بعثات الأوقاف والأزهر إلى هناك لتنشر الفكر الوسطى وتبنى المساجد وتتجه القبائل للإسلام.. وكانت زيارات القراء المصريين بدءًا من الحصرى وعبدالباسط ومصطفى إسماعيل وحتى الشيخ الطبلاوى.. هى أهم الزيارات التى ينتظرها الأفارقة.. وكانت ليالى رمضان هى أهم شهور السنة لدى أغلب الدول الإفريقية ولم تتأخر الكنيسة المصرية أيضًا فى التعاون مع الكنيسة فى إثيوبيا وامتدت رعاية الكنيسة المصرية لعموم إفريقيا.

التواجد المصرى فى إفريقيا كان دائما السبب فى صراع للحكومات الإسرائيلية المتعاقبة وأيضا لكثير من الحكومات الغربية التى تعتبر إفريقيا بالنسبة لها موردًا استراتيجيًا سواءً على مستوى البشر سابقًا عبر رحلات خطف العبيد الذين بنوا أمريكا أو عبر سلب مواردها الطبيعية من معادن ومواد مولدة للطاقة أو إنتاج زراعى رخيص وكثيف. حوّل الغرب إفريقيا على امتداد التاريخ إلى مخازن لكل شىء يمدون أيديهم إليها حين يحتاجون أو حتى حين لا يحتاجون.. وظلت القوات الفرنسية والبريطانية والإسبانية هى التى تفصل فى النزاعات الإفريقية حتى الآن.

ورغم كل ما يقال عن العقيد القذافى.. فقد كان من أكثر الرؤساء العرب اهتمامًا بإفريقيا وقدم لها المليارات كدعم وعون.. نعم صرف أغلبها فى غير ما وجه إليه.. ولكنه لفت النظر إلى أهمية إفريقيا.. لم تلتفت دول كثيرة مثل السعودية والإمارات إلى أهمية قارة إفريقيا لها، والتى كان من الممكن أن تحولها بأموالها إلى سلة غذاء لشعوبها ولا تصرف المليارات على تحلية مياه البحر لتزرع أراضى صحراوية.. فى حين لن يكلفها زراعة ملايين الأفدنة لصالحها فى دول عديدة. لعل أقربها لها سياسيًا ولغة وفكرًا كانت السودان وإريتريا وإثيوبيا ولم تنتبه هذه الدول إلى أهمية تحويل إفريقيا إلى ظهير اقتصادى لها إلا مؤخرًا ولغرض آخر فى نفس يعقوب، وبعد أن تركتها لإسرائيل والصين.

تجربة القذافى فى ليبيا لم تنجح لأسباب كثيرة ومتعددة.. منها عدم وجود أهداف واضحة للتمويل ولا خطط اقتصادية لاستغلال هذا التمويل.. وإنما اعتمد على كسب تأييد القبائل ودعم الدول له ولإشباع رغبة لديه أن يكون حاكمًا لأكبر عدد من الدول والشعوب.. عانت إفريقيا من الابتعاد المصرى والإهمال العربى فاستغلت إسرائيل ذلك وانتشرت أجهزتها فى السودان لتهرب يهود الفلاشا فى أكبر صفقة لنقل يهود إلى إسرائيل.. ثم عادت لتدعم مشروعات ووضعت نصب عينيها منابع النيل لتحقق حلمها الأبدى أن تزرع أرضها بمياه النيل.. وهذا لن يحدث إلا باحتلال مصر أو إجبارها على السماح لمياه النيل بالوصول إلى إسرائيل، ولأن الاختيار الأول لن يحدث.. فلن تستطيع يوما احتلال مصر.. لجأت إسرائيل إلى الاختيار الثانى وهو إجبار مصر على ذلك أو إفقار مصر مائيًا فنقبل بشروط أخرى، فبعد بناء السد أصبحت إثيوبيا هى المتحكم فى حصة مياه النيل وباتفاق السودان وإثيوبيا، فنحن مقبلون على مرحلة فقر مائى.

ولذا فإن إسرائيل وبقوتها الناعمة ودعمها الاقتصادى لإثيوبيا والسودان تستطيع ساعتها اقتسام حصة النيل مع مصر، ولو أرادت مصر زيادة فى حصتها فعليها تمرير نسبة إلى إسرائيل.. حلم يراود إسرائيل منذ عشرات السنين.. حاولت إثيوبيا أيام السادات وفشلت.. حاولت أيام مبارك وفشلت ولكنها استغلت فترة ما بعد 25يناير 2011 واهتمام الدولة المصرية بإعادة البناء وبدأت بناء سد النهضة.. وحاول الإخوان المقاومة فكان الاجتماع الفضيحة فى عهد مرسى والذى أذيع على الهواء مباشرة واتخذته إثيوبيا ذريعة لطلب دعم الدول لها وتسريع خطوات إنشاء السد.. وتوالت الأحداث مع فتور العلاقة مع السعودية وقطر لتتوجه الدولتان فى تصرفات غير مبررة لدعم مشروعات زراعية فى إثيوبيا يتم فيها استغلال مياه السد وليسرع ذلك الدعم فى خطوات إنهاء بناء سد النهضة.

وبدأت مصر التعافى ليبدأ الرئيس السيسى رحلات متعددة إلى إفريقيا واهتم بإثيوبيا التى لم يزرها رئيس مصرى منذ حادث محاولة اغتيال مبارك فى منتصف التسعينيات.. لم تكن رحلات السيسى إلى إفريقيا إلا لتحقيق أهداف سريعة ولوقف محاولات لدول أخرى للتمدد داخل إفريقيا.. رحلات تصل أيضًا إلى رحلات ليوم واحد تبلغ ساعات السفر فيها ضعف ساعات الحكومة والتى تستغل فقط للمحادثات الهادفة.. الرئيس يفكر اليوم امتدادًا لفكر محمد على أن تصل مصر إلى أعماق إفريقيا.. ولن يتم ذلك إلا بتعاون اقتصادى، فنبدأ بإنشاء طريق دولى يربط مصر بإفريقيا جنوبًا ليكون امتدادًا لطريق تصل به الصين وأوروبا عبر مصر إلى إفريقيا.. ولتبدأ البوابة الشمالية الشرقية لإفريقيا العمل الفعلى.. وهناك مشروعات أخرى ستبدأها الكوميسا وهناك خطط للتعاون المباشر والدائم مع الدول الإفريقية.

على التوازى يجب أن تبدأ الحكومة الاهتمام بالوصول إلى الشعوب الإفريقية عبر بعثات الأزهر الذى يجب عليه الاهتمام بإحياء القوافل الدينية وإنشاء المعاهد الأزهرية.. وأن تعود وزارة الرى إلى حفر الآبار فى دول إفريقيا ومناطق تحتاج ذلك بشكل عاجل. ما سوف يوجه إلى إفريقيا ليس منحة.. ولكنه بناء لمستقبل وتعاون سوف يعود علينا بالكثير..

أما وزارتا الخارجية والإعلام.. فإن العبء هنا أكبر، وهناك عبء كبير يقع على عاتق الخارجية.. والتى بدأت تجربة مهمة عبر الوكالة المصرية للشراكة والتنمية المستدامة.. وكذا عبر تعاونها مع وزارة الإعلام فى معهد تدريب الإعلاميين الأفارقة.. أيضًا من المهم البدء فى دعم الإذاعات الموجهة باللهجات المحلية لإفريقيا وعودة معهد الدراسات الإفريقية إلى دوره المهم.. إفريقيا بالنسبة لنا هى الأهم وهى الامتداد الفعلى للأمن الاقتصادى والأمنى والظهير القوى لمصر فى كل المواقف والقضايا.. اهتمام الرئيس بإفريقيا يجب أن يعقبه تحرك فعلى للجنة الشئون الإفريقية بمجلس النواب وكل الجهات التى تتعاون مع إفريقيا ولنجعل عام 2018 هو عام إفريقيا تفتح فيه كل ملفات التعاون ونبدأ فيه عملًا مشتركًا يؤمن مصر من مراحل فقر مائى وأيضًا يحيى تعاونًا اقتصاديًا ودعمًا سياسيًا.