رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أول حوار في الكوكب مع الجزيرتين الملعونتين



عزيزتى تيران:

صديقتى صنافير:

أكتب إليكما هذه الرسالة فى مساء السابع عشر من يناير 2017، حيث انتهت منذ أيام أولى مباريات مصر فى بطولة الأمم الإفريقية لكرة القدم بالتعادل السلبى مع منتخب مالى، وحيث مازال الحديث عنكما يتصاعد ليصل إلى قصور القادة ومخادعهم الحصينة ويتسرب إلى المقاهى وطرقات الشركات وردهات المؤسسات والهيئات وغرف نوم الممرضات وحارسى العقارات وسائقى التاكسيات ونوادى الأدب والكافيهات وماسحى الأحذية.. لا شىء يشغلنا أكثر منكما، لم نكن نعرف عنكما شيئًا سوى اسمين مكتوبين بخط صغير على جانب الخرائط، لكنكما تملكتما قلوبنا وعقولنا، صحيح بعضنا كان يخطئ فى نطق الاسمين صحيحين، لكن اليوم أصبح صغارنا يرددون الاسم دونما خطأ، هكذا: تيران وصنافير، ومازلنا نحلم بالوصول إليكما.

أصارحكما القول: أنا غير مستريح لمخاطبتكما كجزيرتين منفصلتين، أريدكما معاً، خيالى يصوركما شجرة ضخمة تضع يدها الأضخم على شجرة أصغر منها، تتحدان فى واحد وتجلسان فى مهابة تستمعان إلى ما أقول، أنا أشرف عبدالشافى، ولستُ سوى واحد من أحفادكما أعيش هنا فى القاهرة وحولى فى القرى البعيدة والمدن الواسعة والنجوع النائية ملايين من الأحفاد والأبناء، جئتُ إليكما معتذرًا عن جهلنا بكما، عن غفلتنا التى دامت عقودًا، عن خيبتنا ومصيبتنا وأخطائنا فى حقكما عفواً: هل يمكن أن أتخلى الآن عن مخاطبتكما كاثنتين منفصلتين وأناديكما بـ«جدتى»؟

شكرًا لك يا جدتى الكبرى والصغرى على رحابة الرمل والماء والشجر.

أقول يا جدتى: نحن أخطأنا فى تقدير مكانتك، استيقظنا فجأة على صراع غير مفهوم، كأننا سمعنا أحدًا يقول إن جدتكم الشجرة الضخمة التى تضع يدها الآن حول كتف شقيقتها التى هى جدتنا الصغرى، قد جاء من يهدد وجودها ويأخذها فى عز البرد إلى بلاد بعيدة !!، لم نكن نعرف مكانك بالتحديد جهلاء كما تعلمين يا جدتى ولم يكن الوصول صعبًا فى عصر يختلف عن عصر ميلادك بسنوات ضوئية فلدينا محركات بحث كتبنا الاسم فظهرت النتائج، وبدأنا نتعرف أكثر على جدتنا الُمهددة بتصريحات إعلامية من هنا وهناك: هذه رمالها، وتلك صخورها، واللون الأزرق الصافى هناك هو لون مياهها، نشاهد وندقق، ونبحلق بعيوننا أكثر لنكتشف جهلنا ونتحسر على ما فات من أعمارنا دونما زيارة منّا لجدتنا التى تجلس فى انتظارنا منذ سنوات بعيدة.. نحن مخطئون يا جدتى وقد دفعنا ومازلنا ندفع الثمن اشتياقًا ومحبة وحنينًا لملمس رمالك ورائحة أشجارك.

لماذا هذا الغضب الذى انتابك فجأة يا جدتى؟ هدئى روعها يا جدتى الصغيرة، وقولى لها إن من بين أحفادها من كان يعرفكما جيداً، لم نكن كلنا جهلاء يا سيدة الأرض، فرفقًا بحالى حتى أستطيع حصر بعض أسماء الكتب والمراجع التى تم توثيقها منذ عام 1902، حيث كانت البداية فى مذكرات أحمد شفيق باشا، وجاءت بعدها مئات الدراسات التى تتحدث عن مصريتك وكيف دفع المصريون ثمن حمايتك وكيف قدروا أهمية مكانتك، وفى كتاب «النخبة الأزهرية فى تخطيط الكرة الأرضية» لمؤلفه إسماعيل على مدرس علم تقويم البلدان بالأزهر الشريف وجدنا فصلًا لجزائر مصر قال فيه «يوجد بالبحر الأحمر عدد عظيم من الجزائر الصغيرة أكبرها (طيران) التى كتبها بالطاء وصنافير فى مدخل خليج العقبة وجزيرة شدوان فى مدخل خليج السويس».

وبين يدىّ يا جدتى العظيمة كتاب تفضلّ وأهدانى إياه الصديق والناشر «محمد هاشم» صاحب دار ميريت للنشر وقبل توزيعه فى معرض القاهرة الدولى للكتاب، وهو كتاب لا يقل عظمة عن بهائك اسمه «تيران وصنافير دراسة تاريخية وثائقية 1840-1990» للدكتور صبرى العدل الذى قدم جهدًا رائعًا وجمع أكثر من مائتى وثيقة ودراسة وعشرات الخرائط والمذكرات المتبادلة بين الخارجية المصرية والقادة العسكريين والسفراء، كما ضم اتفاقيات الحدود بين مصر والدولة العثمانية عام 1906 كما وردت بـ«الوقائع المصرية» وهى الجريدة الرسمية، وتضمن الكتاب حصرًا وافيًا يا جدتى بالوثائق والمطبوعات التى حصل عليها المؤلف من دار الكتب والوثائق المصرية والوثائق البريطانية والرسائل العلمية إضافةً إلى وثائق مجلس الأمن.

الغضب ثانية!، ماذا يا جدتنا الجميلة؟ ماذا يثير غضبك ويجعلك تميلين بوجهك عنى، جئتُ إليك مرهقًا يا جدتى، وخجلًا من جهلنا بتاريخك ومكانتك فى جذورنا، جئت أعترف لك ومعى ملايين بأن كل ما يؤلمنا غيابنا عنك، ولم يؤلمنا يومًا أن يخرج من بيننا من يشكك فى عراقة أصلك المصرى!، فهؤلاء أحفادك أيضًا وأسألك المغفرة لهم، فهم جهلاء مثلنا يا جدتى، لكنهم ظنوا أنهم مثقفون ويعرفون أكثر منّا وتورطوا فى كلام كبير وكلام صغير وهرتلة سطحية ومهزلة أرضية وأصبحوا فى حالة بائسة تستحق الشفقة، أعرف يا جدتى ويعرف كل هؤلاء الذين يحيطون بى كل ما جرى على ألسنة هؤلاء، لكنه غباء يضاف إلى جهلنا يا جدتى، وليس هناك ما يدعوك إلى الغضب منهم، اسمحى لى أن أسرد عليك قصة شعبية شهيرة عن أب أنجب أولادًا بلهاء، وأم أنجبت بنات ساذجات، وقد أنجبوا جميعًا أطفالًا بلهاء لهم رؤوس كبيرة جدًا مثل بطيخة ضخمة راحوا يسيرون فى الشوارع الضيقة وفى أيديهم أكياس عصير قصب بشفاطة وكوباية جيلاتى، وحدث أن اجتمع كل هؤلاء الأطفال البلهاء من أولاد وأحفاد فى مكان واحد، وراحوا يشفطون من عصير القصب ويلهطون الجيلاتى ويرقصون ويرددون «بيرلا بيرلا بريللا» وتتناطح رؤوسهم الكبيرة مثل بطيخة بينما السماء تمطر بشدة!!، انظرى يا جدتى إلى منظرهم هؤلاء بؤساء وغلابة، هل يعقل الغضب من هؤلاء البلهاء الطيبين؟ إنهم أحفادك، وهذا قدرك وقدرنا.

جدتى.. نحن فى عصر صعب يا جدتى، الناس تكذب وتمارس التضليل بقصد ودونما قصد، نعيش زمنًا معقدًا ومتشابكًا ضاعت فيه المعلومة وعمّ الجهل وغابت البصيرة، تورط الناس فيما لم يكن مطلوبًا منهم أن يتورطوا فيه، كانت هناك ماكينات إعلامية وإعلانية ضخمة يا جدتى، ماكينات تضخ ملايين الأخبار وأخرى تضخ مليارات الدولارات لصناعة فتنة على شرفك وتحت ردائك الطاهر العفيف، نعرفهم بالاسم يا جدتى ولا خوف عليهم وسيعودون إلى أحضاننا ويعرفون مدى تسامحنا حتى مع من تنكروا لجدتنا الكبرى وشقيقتها الصغرى.

رئيس تحرير الصحيفة القومية الكبرى الذى أقسم أن لديه وثائق ضد وجودك على أرضنا، الصحفى الوزير القصير الشمعى الملامح الذى أقام ندوة فى حرم وزارة الثقافة المصرية ليعلن تنكره لك، مريض نفسى وصفك وشقيقتك بالجزيرتين الملعونتين!!، الصحفى والنائب، الإعلامى والتائب،.. الخنفاء والشقراء.. القبيح والمليح، الفصيح والكسيح، نعرف كل هؤلاء يا جدتى، ونستميحك عذرًا أن تسامحينا على جهلنا أولاً، وأن تغفرى لهم ولكل من أخطأ وقال كلمة تسببتْ فى ألمك وحزنك، هؤلاء كما قلت لك مرارًا هم أنفسهم الذين كانوا يلعبون أمامك منذ قليل!، هل يعقل الغضب من أطفال ودعاء بلهاء يرقصون «بيرلا بيرلا بريللا» وهم يلطخون وجوه بعضهم البعض بالجيلاتى؟!.

تيران وصنافير.. جدتنا الكبرى وشقيقتها الصغرى، شجرتنا الممتدة الجذور.. جدتى الطيبة، لقد كتب الله عليك أن تكونى أسطورة العصر الحديث بين الجزر، ولا نظن يا جدتى أن جزيرة فى هذا العالم ستحظى بما حباك الله به مع جدتنا الشجرة الصغيرة من نعمة كبيرة، كل القلوب التى تفرقت حولك كانت تبحث عنك وعن ملامحك ورائحة مائك وملمس رمالك وظلال أشجارك، لذا ياجدتى فأنا أناشد الأصدقاء فى المملكة العربية السعودية من مثقفين وأدباء ومفكرين إلى تنظيم زيارة جماعية إلى رحابك الطاهر، أدعوهم باسم الفكر والعلم والعقل أن يبدأوا فى إعادة العقل إلى البلهاء هنا وهناك فلم يعد هناك كلام يقال عن مصريتك ولا أظنهم أقل فرحًا بمصريتك بعد حكم المحكمة فهم لم يبحثوا عنك ولم ينشغلوا بصناعة معركة مع شعبنا وأهلنا بسببك.

أنت سيدة العصر يا جدتى مع شقيقتك الصغرى، ولا نريدكما فتنة بيننا وبين أشقائنا المخطئين، لا نريدكما قبضة فى أيدى بلهاء هنا، أو هناك فى المملكة العربية السعودية، انتهى الأمر يا جدتى وعفا الله عما سلف، وإن عادوا عدنا، أما إن تشبثوا بكلام البلهاء والطيبين الذين يلطخون وجوه بعضهم البعض بالجيلاتى وعصير القصب فسنجمعهم فى غرفة مظلمة ونطلق عليهم فئرانًا سوداء وبيضاء تعض ألسنتهم الطويلة وتغرس أسنانها فى أعناقهم الغليظة حتى يتوبوا.

وقبل أن أمضى، أقول لكما إن الذى تطاول ذات يوم ووصفكما بالملعونتين لم يكن يعرف أن هناك لعنة الحب والهوى والغرام وأنكما ستصبحان رمزًا ومثالًا لأجمل وأحلى لعنة حين تتشابك أيادينا ونأتى لزيارتكما إن كان فى العمر بقية.