رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

قوتنا الناعمة فى خطر


فى منتصف السبعينيات كانت رحلتى الأولى إلى معرض القاهرة الدولى للكتاب، ومنذ هذه الزيارة لم تنقطع زيارتى السنوية للمعرض الذى انتقل فيما بعد إلى أرض المعارض بمدينة نصر ليبدأ مرحلة جديدة فى عمره الممتد حتى الآن والذى لم يتوقف سوى فى يناير 2011.. معرض القاهرة الدولى للكتاب الذى سنشهد بعد أيام دورته الجديدة ارتبطت به زائرًا ثم مشاركًا منذ عام 89 وحتى 2004.. خمسة عشر عامًا كاملة من أهم سنوات العمر عملت به معدًا لندواته ومشاركًا فيها، ثم مشرفًا عليها لسنوات.. رحلة كان لى شرف أن صاحبت فيها د. سمير سرحان وزارة الثقافة المتحركة الذى كان رحمه الله يستعد لمعرض الكتاب كل عام بفرحة شاب يحقق حلم عمره.. كان يحوله إلى أجمل عرس ثقافى وأهم حدث فى العالم العربى.. هذا المعرض كان سلاحًا من أهم أسلحة القوة الناعمة لمصر.. لم يغب عنه مثقف عربى، وشاركهم أيضًا أهم مثقفى العالم.. هنا فى القاهرة كان يحضر نزار قبانى وسعاد الصباح وبلند الحديرى وسميح القاسم ومحمود درويش.. مفكرون من العراق ومن المغرب كل المدارس الفكرية والأدبية، كان هدفهم طوال يناير هو القاهرة.

هذا الحدث المهم كان يشهد أهم الندوات، شهد ندوة الدولة الدينية والمدنية.. وبعدها كان قرار الجماعات الإرهابية بالتخلص من الدكتور فرج فودة الذى ظل أربع ساعات كاملة يدحض أفكارهم ويناقش كبار شيوخهم.. كانت المنصة يومها تضم الراحلين د. سمير سرحان ود. فرج فودة ود. خلف الله ود. محمد عمارة والشيخ محمد الغزالى.. حضر الندوة آلاف الأعضاء من جماعة الإخوان المسلمين.
وأذكر يومها أننا وصلنا للمعرض الساعة السابعة صباحا لنجد طوابير الشباب الإخوانى أمام أبواب المعرض الـ 15 بطول يتجاوز الألف متر أحيانًا.. هذه الندوة كانت دليلًا على مدى تنظيم جماعة الإخوان.. فى المعرض أيضًا مازلت أذكر أمسيات نجم والأبنودى واللقاء السنوى للبابا شنودة.. هذا الحدث أدرك القريبون من مبارك أنهم إذا كانوا يريدون تقديم جمال مبارك للشعب فإن أفضل السبل هو عبر معرض الكتاب، لتبدأ لقاءات جمال مبارك فى التسعينيات وتستمر بعد ذلك سنويًا..
هذا السلاح القوى نفقده الآن من أجل إيجارات لا تزيد على 10 ملايين جنيه يمكن تقديمها دعما بخفض الإيجارات أو إلغائها.. فى المقابل قدمت دول الخليج ملايين الدراهم والريالات ليقف معرض الدوحة أو الشارقة أو جدة فى مواجهة معرض القاهرة أو يتفوق عليه.. دعوات مجانية لمثقفينا وشعرائنا وإقامات وهدايا لكى تكون معارضهم فى المقدمة ونحن نخسر قوتنا الثالثة..
كنا نسافر إلى المغرب فيفهمنا المغاربة ولايجدون مشكلة فى اللهجة لأن أفلامنا ومسلسلاتنا كانت تملأ الشاشات وكذا فى الخليج.. وتغير الحال لتبدأ الدراما التركية والسورية غزواً ممنهجًا وممولًا لتسقط الدراما المصرية، وفى الوقت الذى تتكون فيه كيانات عملاقة لم يفكر هؤلاء فى تكوين كيان عملاق أو تمويل تليفزيون الدولة ومشاركته لعودة الإنتاج لكيان قدّم «رأفت الهجان» و«ليالى الحلمية» ومئات الأعمال الرائعة.. ونفقد سلاحًا آخر من أسلحة قوتنا الناعمة.
الحرب الممنهجة والمنظمة ضد قوة مصر الناعمة لم تتوقف عن الدراما فجاءت شركات الإنتاج الخليجى لتحتكر أصوات مطربينا الواحد تلو الآخر بعقود بقيمة كبيرة، يعقب ذلك عدم تقديم ألبومات جديدة لهم وإخلاء السوق لمطربين خليجيين، بعد ذلك تتحول ساحة الأغنية بالكامل إلى غناء وأداء خليجى فتختفى الهوية واللهجة المصرية.. حرب منظمة يتم الصرف فيها بمبالغة ويتم صنع نجوم من كل الدول ما عدا مصر.
نفقد عرش الدراما ثم عرش الغناء ثم نفقد عرش التلاوة هو الآخر.. مصر الدولة التى خرج منها عبدالباسط عبدالصمد والحصرى والبنا ورفعت ومصطفى إسماعيل والنقشبندى وطوبار والكحلاوى، ثم تبدأ الحرب.. شركات التوزيع تنشأ برأس مال كبير، سيل من المقرئين من الخليج يتم الصرف عليهم وتسويق قراءاتهم ووصلت بهم الحرب إلى إنشاء قنوات خاصة لهم فى الوقت الذى نقف فيه عاجزين عن تطوير إذاعة القرآن الكريم أو تطوير معاهد القراءات، ولعل أهمها كان المعهد الأحمدى بطنطا.
قوتنا الناعمة فى إفريقيا أيضًا والتى نحاول استعادتها مطلوب أيضًا دعمها، أكثر من ستين إذاعة تضمها شبكة الإذاعات الموجهة باتحاد الإذاعة والتليفزيون، لم يتم تطويرها ولا تطوير استديوهاتها وقل الاهتمام بها.. محاولات تقوم بها وزارة الخارجية بالاشتراك مع وزارات أخرى لاستضافة أفارقة فى كل المجالات لتدريبهم ولمشاركتهم فى فعاليات مصرية ولكن بدون تنسيق أو منهج واضح فيعود الإعلامى أو المهندس الإفريقى بعد أن تمتع بزيارة لأماكن ومنتزهات ولم يلتقى مسئولاً مهماً أو إعلامياً كبيراً إلا فيما ندر..
فى الوقت الذى نسعى فيه لموجات الـ «إف إم» وبث إذاعات الغناء والمنوعات ننسى صوت العرب التى استطاع عبدالناصر من خلال برامجها أن يصل إلى العالم العربى.
المخابرات الإسرائيلية وأجهزة المخابرات الغربية تملأ إفريقيا بالشركات والمشروعات والبعثات الخيرية، وتنضم إليهم قطر والسعودية ليملأوا فراغًا تركناه لهم بعد أن كانت إفريقيا لا تعرف سوى المدارس المصرية ومحطات رفع المياه المصرية والمنتج المصرى عبر فروع شركة النصر للتصدير والاستيراد.
قوتنا الناعمة فى خطر فى وقت يتجه فيه العالم لحروب الجيل الرابع والخامس وهى حروب تعتمد على القوى الناعمة فى كل المجالات.. علينا أن ننتبه قبل أن نفقد قوتنا الناعمة فى الخارج، ويتم تغييب هويتنا فى الداخل.