رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

سيكولوجية الزحام .. ووصية جمال حمدان


من خلف زجاج سيارتى المتوقفة بفعل الزحام الشديد بطريق صلاح سالم، وبالتحديد أمام المبنى العملاق لـ «الجهاز المركزى للتعبئة والإحصاء»، لفت انتباهى الشريط الإلكترونى المضاء أعلى البناية مُعلنًا عن آخر تعداد للبشر فى مصرالمحروسة، ويزف البُشرى بكسرحاجز الـ 92 مليون نسمة، متكأكئين متزاحمين بالأكتاف والسيارات والتوك توك، حول الشريط الثعبانى للنهر الخالد إلا من رحم ربى وهرب إلى الصحراء التى لا نبات فيها ولا ماء  وتذكرت على الفور أنه فى منتصف ثمانينيات القرن الماضى ، وفى كتابه «شخصية مصر»، كتب مفكرنا وفيلسوف الجغرافيا الراحل جمال حمدان: «إن مصر اليوم، ورغم كل التغيرات الجذرية الإيجابية والمشرقة والواعدة التى أنجزتها، تبدو فى أسوأ حالاتها، أسوأ مما كانت عليه فى أى يوم مضى، إنها ما زالت تبدو حتى الآن عتيقة شاخت، ولا تتجدد أبداً، مريضة بأزمان، ولكنها لا تموت أبداً، ذلك أنها تعايشت مع المرض، وتعودت عليه، ومرضها القومى المتوطن، هو إذن كمرضها الطبى المتوطن، فالبلهارسيا والإنكلستوما لا يميتان على الفور، ولكنهما يُعجزان ويُضعفان ويُقعدان المصاب ...». وعلى هذا فقد أوصى عالمنا المصرى بالخروج من وادى النيل الضيق، والانتشار فوق ربوع الخريطة المصرية بأكملها للاستفادة من ثروات الصحراء التىلم يُكشف النقاب عنها بعد، ولتحقيق الصفاء النفسى والروحى بعيدًا عما يسمى بـ «سيكولوجية الزحام» التى تهدد استقرارالمجتمعات والعواقب الوخيمة المترتبة عليه، من ارتفاع معدلات الجريمة والسرقة والجرائم المسكوت عنها داخل حيز الأسرة الواحدة!

وعلى ضوء هذا المفهوم وفى محاولة لإعادة تنظيم الخريطة السكانية فى مصر، أعلن المجلس القومى للسكان ـ منذ فترة ـ عن تنظيم ورش عمل لمناقشة الاستراتيجية القومية للسكان عن الفترة 2015/2030، وتلخصت الأهداف العامة لهذه الاستراتيجية فى ضرورة إعادة رسم وترسيم الخريطة السكانية فى مصرمن خلال توزيع السكان على نحو يحقق الأمن والأمان فى عددٍ من المناطق العشوائية، وإقامة مناطق عمرانية جديدة ـ تحقق منها النذر اليسيرـ وأهمها التفكير فى إنشاء العاصمة الإدارية الجديدة خارج نطاق الكثافة السكانية لمدينة القاهرة العاصمة الأبدية لمصر المحروسة، وهى التى ستكون بمثابة تفريعة جديدة لشعيبات الرئة للمدينة العتيقة التى يؤمها فى النهارأكثر من ثلاثين مليونًا من البشر لقضاء مصالحهم الإدارية والحياتية، وهى خطوة تحقق الأمل المرجو لاستعادة ريادة مصر الإقليمية بتحسين خصائص المواطن المصرى المعرفية والمادية والسلوكية برفع معدلات تشغيل الإناث، وبخاصة من يكنَّ مُعيلات لأسر فقيرة كثيرة العدد، ووضع استراتيجية للخريطة السكانية بخفض نسبة الأمية بين الإناث وخفض نسبة الزواج المبكر ومعدل تشغيل الأطفال ومعدل الطلاق، والارتقاء بنوعية حياة المواطن بخفض معدلات الزيادة السكانية، مع استعادة دورمنظمات المجتمع المدنى بتبنِّى القيم الإنجابية التى تحقق التوازن بين معدلات النمو الاقتصادى والسكاني، وتصحيح وتعديل المفاهيم العقائدية الدينية بالتفسير الصحيح لحديث الرسول «صلى الله عليه وسلم» الذى قال فيه: «تناكَحُوا تناسلوا فإنى مُباهٍ بكم الأمم يوم القيامة»! فمن خلال هذا الحديث نرى أن المباهاة تكون بالعدد، أى بالكَمْ على حساب الكَيف، ونرىأن هذا الحديث يضرب فى الجذور برامج تنظيم النسل وتحديده.

وعلى هذا القياس والفهم السطحى لهذا المفهوم .. هل نستطيع أن نقول: إن «ماو تسى تونج» سيتباهى بقومه يوم القيامة على أمة محمد لأنهم الأكثر عددًا فى تاريخ البشرية، برغم القوانين التى اعتمدتها الحكومة الصينية من أجل تحديد النسل؟ فعلينا التدبر العميق لما أورده الرسول فى حديثه الشريف، خاصة أنه لم يترك الأمور على عواهنها، فقال أيضًا: «المؤمن القوى خيرٌ وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفى كلٍ خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز.... إلخ! فالمسألة ليست أعدادًا مهولة كغثاء السيل، ولكن لابد من التسلح بالعلم والتكنولوجيا والمعرفة المتقدمة المواكبة لمستحدثات العصر، وهذا يلقى بالمسئولية الكبرى على عاتق الدولة، بإعادة النظر فى مفاهيم العملية التعليمية وتغييرها إلى الأفضل من الجذور، للخروج من بؤرة الفقر والنقصالمعرفى لدى الأجيال الصاعدة فى كل المجالات، واللحاق بركب الدول التى انطلقت نحو آفاق المستقبل.

من أجل ذلك نوصى بضرورة أن نقف وقفة جادة لوضع محاور لتحقيق هذه الأهداف منها محور تنظيم الأسرة والصحة الإنجابية ومحور صحة الشباب والمراهقين، وأهمها العناية بمحورالتعليم والبرامج الإعلامية التى تعمل على زيادة التواصل الاجتماعى، وعدم تهميش الدورالفاعل للمرأة بصفتها حجرالزاوية فى بناء الأسرة فى المجتمع.

وهذا يدعونى من منبرى هذا ـ إلى المناداة بضرورة إطلاق «حوار مجتمعى» يضم كل فصائل المجتمع، وعلى رأسهم القيادات البحثية بالجامعات المصرية، وتفعيل توصيات وقرارات الرسائل البحثية ورسائل الماجستير والدكتوراه حبيسة أرشيف وأرفف المكتبات الجامعية، مع تفعيل دور المؤسسات الحكومية وغير الحكومية لوضع تقديرات النمو السكانى عند التخطيط العام للدولة، من أجل الوصول إلى القضاء على آفة «المركزية» العقيمة فى كل مناحى الحياة العملية، والتى يبدو أننا قد توارثناها منذ حكم الفرعون، الذى كانت تتمحور حوله كل خلايا الدولة وتدين له بالولاء وانتظارًا لأوامره. مازلت فى انتظار الحوار المجتمعى .. وإنارة إشارة المرور الخضراء!!