رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

محمود عبد العزيز.. شـَـهْـد الإبداع


كان من المفترض أن يكون هذا الفنان صاحب مزارع «خلايا نحل» لإنتاج الشهد المصفَّى، لكونه حاصلا على ماجستير فى تربية النحل بعد نيله بكالوريوس الزراعة من جامعة الإسكندرية، التى لعب على مسارحها إرهاصاته الفنية، ولكن طموحاته وتيارات الحياة ودواماتها المتلاطمة اختطفته إلى الحقل الفنى على الشاشة البيضاء ليقف جنبًا إلى جنب مع مشاهير الفن ورموزه من أبطال الشاشة ذاك الوقت فى مسلسل «الدوَّامة»، بعد أن اكتشف موهبته المبكرة المخرج نور الدمرداش فى بداية السبعينيات من القرن العشرين، ليكون عند حُسن الظن ويضع بصمة واضحة فى أحد أهم كلاسيكيات السينما المصرية فى فيلم «الحفيد» مع كوكبة رائعة من النجوم، إلى أن يقتنص دورالبطولة المطلقة التى أشارت بقوة إلى بزوغ نجم جديد فى سماء السينما المصرية فى فيلم «حتى آخر العمر»، لتتلألأ بالأنوار أفيشات الأفلام فى الشوارع ودورالسينما باسم البطل الصاعد الجديد آنذاك «محمود عبد العزيز».

ومنذ لحظة ظهورهذا الفتى الذى شهد ميلاده حى الورديان بالإسكندرية فى يونيو 1946، ارتبط اسمه بالقيام بالأدوارالشبابية والرومانسية .. حتى رسخ أوتاد نجوميته الفائقة فى فيلم «العار»، الذى يُعد بداية الارتباط والالتزام بالإضاءة الكاشفة على قضايا المجتمع والعلاقات الخاصة بين الأفراد داخل الأسرة الواحدة، لينتقل إلى الانفتاح على معالجة القضايا الكبرى التى تعمل على تنمية الانتماء للوطن وترابه، فيلعب باقتدار دور عميل المخابرات والجاسوس فى فيلم «إعدام ميت»، وهو الدورالرائع الذى جعله محط أنظار الجمهور ومخرجى السينما والتليفزيون، فيلعب دور «رأفت الهجان» فى المسلسل التليفزيونى الذى يحمل الاسم نفسه وهو من ملف وثائق المخابرات المصرية، التى حرصت على أن تنعى رحيله بكل التكريم على أعمدة الصحف كواحدٍ ممن أظهروابطولة رجالاتهم فى مجال الأمن القومى خارج الحدود.

وليس هذا فحسب.. فقد كان للراحل وقفات جادة لتعضيد ومساندة القيادة المصرية، ومواقفه الواضحة غيرالملتوية ولا المناوئة للإحساس الجمعى المصرى، ولا يحكمها سوى الانتماء والولاء للوطن .. حيث قال فى أحد تصريحاته: «الحمد لله الرئيس السيسى جه وخلصنا من العصابة اللى كانت قبله، اللى كانت حاكمانا وكانت هتدمر مصر كلها، بس الشعب كان أوعى من كده بكتير»!، وهكذا يكون صدق الفنان مع نفسه ورسالته التى وهب حياته من أجلها، لذا كان مندوب رئاسة الجمهورية على رأس من حضروا لتقديم واجب العزاء فى رحيله لأنه آمن بالوطن فآمن به الوطن.

ولعله من الصعب العسير تتبع المسيرة الفنية لهذا الفنان العملاق خطوة إثرخطوة، فكل شخصية قام بأدائها كان لها الشكل والطعم المميز الذى يصل به إلى الشكل الذى يضارع ويفوق أداء الممثلين العالميين، ولكنى سأتوقف عند بعض العلامات المضيئة التى اعترف بها الجميع، والإشادة بالمستوى الذى استطاع أن يصل إليه بقدرته على تقمص مختلف الشخصيات، لنتوقف عند أداء شخصية «الشيخ حسنى، وهى الشخصية المحورية فى فيلم «الكيت كات»، هذا الفيلم الرائع الذى يقوم بتعرية المجتمع وكشفه حتى العصب، ولم يأت هذا الأداء الرائع إلا لإيمانه برسالة الفن وأهميته فى انتشار رسالة التنوير، حيث بلغ عدد أفلامه نحو 84 فيلمًا، وأربعة عشر مسلسلاً تليفزيونيًا، قام فيها بدور البطولة الكاملة، فى حين أخرج فيلمًا واحدًا هو «البنت الحلوة الكدابة»، وهو ماجعله ـ بهذا الكم الغزيرالمتنوع من الأدوار السينمائية ـ يتقدم الصفوف ليحصد العديد من التكريمات والجوائز كأحسن ممثل عن أفلام : الكيت كات، القبطان، الساحر، سوق المتعة، الليالى المقمرة، إلى جانب التكريمات من مختلف المهرجانات الدولية والمحلية، إلى جانب اعتلائه خشبة المسرح ببطولة مسرحيتى: «خشب الورد و ٧٢٧».وربما بالإحساس الفطرى باقتراب النهاية عندما داهمه المرض الذى تغلغل فى تكوينه، كانت وصيته العجيبة فى أيامه الأخيرة: أن يتم دفنه فى تراب مدينة الإسكندرية مسقط رأسه، وأن يقوم أولاده «محمد» و«كريم» بالقيام بسكب مياه البحرعلى قبره فى أول زيارة له بعد رحيله من عالمنا، هذا العالم الذى ترك فيه بصمة إبداعية يصعب تعويضها خلال سنوات كثيرة قادمة. فلقد امتلك الفنان الموهوب محمود عبد العزيز طوال مسيرته الحافلة، القدرة الدائمة على تقديم جميع الأدوار الصعبة والمركبة كليًا، ليقدم أفلاما أفضل وأفضل، وكلها كانت أدوارًا مختلفة وبعضها شخصيات مركَّبة ـ بلغة أهل السينما ـ ولكن كان الرابط بينها جميعًا هو الفذ القدير الفنان محمود عبد العزيز، ولا أريد أن أظلمه بحصره فى شخصية بعينها، وكانت انتقاءاتى سريعة لبعض الأدوارالتى كانت تعلُق بأذهان الجمهور ويقومون بترديدها بعد مشاهدة الأفلام .. وما أكثرالعبارات التى قاموا بترديدها!

واليوم.. وإيمانًا بالقضاء والقدرومسيرة عجلة الحياة التى لا تتوقف، نقول: وداعًا للممثل القديرالذى رفض طوال مشوار حياته الفنية أن يتجمد داخل القالب الواحد، وأثبت أنه موهبة من النوع الماسى، قوية لا مثيل لها على الإطلاق، وسيظل شهد إبداعه متوهجًا، وأيقونة للسينما المصرية والعربية على المدى البعيد. رحم الله الفنان القدير المتربع على قلوب عشاق فنه الأصيل.