رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

تاجر وترزى من الزمن القديم والجديد


عشنا طفولتنا ومازلنا نتذكر استعدادنا للالتحاق بالمدرسة النظامية بعد قضاء زمن فيما يشبه الكُتاب أو مرحلة رياض الأطفال بلغة العصر تلك الحقبة التى كان للشهادة الابتدائية قدرها وقيمتها فهى شهادة كفيلة بالعمل فى دواوين الدولة أو المصالح الخاصة...

... لا سيما فى الحسابات والمصارف المحدودة وحتى راسبى الشهادة الابتدائية كانوا يجدون أعمالا مناسبة فى المجالات الخاصة والعامة، وكم كانت سعادتنا عندما يصحبنا الوالد لشراء قطعة القماش من الصوف الإنجليزى كما كانوا يطلقون عليه ثم نذهب إلى الترزى «الإفرنجى» كما أطلقوا عليه وهو غير الترزى البلدى الذى يقوم بحياكة الجبة الصوفية والقفطان الحريرى الذى يرتديه العمدة وكبار المزارعين والجلابيب أو البيجامات التى يحيكها الترزى المسمى «الخياط البلدى».

ومع التغيرات الاجتماعية والسياسية رأينا الترزى يرتقى ليصبح تاجراً وترزياً فعنده نختار القماش وكان لا يزال شهرة الصوف الإنجليزى والتاجر فى الأصل كان ترزيا فجمع بين الوظيفتين لتحسين الحالة الاجتماعية والاقتصادية.

ثم كاد هذا النوع أن يختفى باستثناء بعض الشركات الكبرى التى تنتج الأقمشة ولديها مراكز لعرض الأزياء الجاهزة أو تفصيل البدلات «جمع بدلة» فى المصنع الكبير، وهذا ما ألفنا عليه لانضباط مواعيدهم فهم يخيروننا بين المستعجل والعادة بسعر مختلف طبعا فنحن نستلم «البدلة» بعد أسبوعين بدلا من أربعة أسابيع.

أما ما دعانى إلى هذه المقدمة فهو الممارسة السياسية بنظام التفصيل وفقا لمطالب الجهات الحاكمة بالنسبة للمشرعين الذين يقومون بتفصيل القوانين بدقة حتى ترضى الحاكم والمحكوم فى ذات الوقت ومازالت ترن فى أذنى كلمات أحد المشاركين القدامى فى صياغة القانون حين كان يعرض المسودة على الحاكم فى ذلك الزمان ويسأله الحاكم «أين المخرج من هذا القيد؟» فكان يجيبه هذه المادة المثيرة للقلق مقطعة الأجزاء يفصل بعضها علامة، ويفصل بعضها علامة. وشرح المشرع للمنفذ الفرق بين الفصلة والنقطة أو بين الإضافة وبين الفصل الكامل بين الامرين وهكذا تسير وسرنا فى وضع الدستور الحالى قبل تعديله وحتى بعد التعديل كما أثير جدل كبير حول المادتين الأولى والثانية إلى أن وصلنا إلى ما نحن عليه. أما اللافت هو ما حدث حول الديباجة، أى المقدمة الدستورية، وهى جزء أساسى من مواد الدستور، وما حدث من تعديل قد أشرنا اليه فى مناسبات عديدة، فبينما تم إقرار عبارة «مصر حكمها مدنى وكانت هذه الإضافة باقتراح لفضيلة المفتى وقبلته اللجنة بالإجماع، إلا أنه فى الطباعة الأخيرة والتى أجرى عليها التصويت العلنى استبدلت كلمت حكمها مدنى إلى حكومتها مدنية، وأعتقد أن هذا التغيير جرى بيد خفية كما هو واضح من توقف رئيس اللجنة عند قراءتها، ويمكن الرجوع إلى المضابط والتسجيل بصوت الأستاذ عمرو موسى.

ولما كان الدستور هو الأب الشرعى لكل القوانين التى تصدر حتى إذا ما صدر قانونا مغايرا للدستور يطعن عليه أمام المحكمة الدستورية العليا.

أما اللافت للانتباه فهو المحاولات المستميتة لِليّ القوانين حتى عند ثبوت الوقائع، فإن كثيرين ومنهم بعض المحامين تغاضى عن نصوص الدستور والارتكان الى بعض الفواصل، الأمر الذى أشار اليه السيد الرئيس بأن دولته «شبه دولة» بسبب ما أصابها فى العقود الأربعة الأخيرة كما أعلن فى حديثه وكان لم يمض على ولايته أكثر من عام بضرورة مراجعة الأفكار التى تسند خطأ إلى مبادئ دينية، كما تكررالحديث حول شبه الدولة وليست الدولة الحقيقية ولابد من تعديل الاوضاع لتصبح مصر دولة تليق بمكانتها التاريخية فهى أقدم دولة ليس فقط فى المنطقة، بل على مستوى معظم دول العالم.

أما مقومات الدولة الحديثة فليس الاستغناء عن ردائها التاريخى، بل بتجديد مقوماتها لتواكب المقومات الحديثة، وهذا لا يتحقق إلا بإعمال القانون الذى لا استثناء فيه لفئة أو لموقع مهما كان قدره، فالحكم ليس وفق ميول شخصية بل بسلطة القانون الذى يطبق على الجميع،وهنا أكرر ما ذكره أحد المفكرين الهولنديين عندما التقينا معه وكان معى صديق من رجال الشرطة السابقين والذى سأله هذا السؤال «يا دكتور دركسن لقد قضيت بمصر سنوات طويلة كأستاذ فهل تذكر لنا الفرق بين القانون المصرى والقانون الهولندى؟» وأجاب الاستاذ قائلا لا فرق غالبا بين القوانين ولكن الفرق هو فى تطبيقها وأشخاص المطبق عليهم، فبينما فى هولندا الجميع خلف القانون، أما عندكم -أى فى مصر- فالبعض يسيرون أمام القانون والأكثرية خلف القانون.

أما أن ينص فى الدستور على أن بعض المراكز غير قابلة للعزل وهذا المبدأ عانت منه أوروبا عندما كان البابا محصنا لا يستقيل ولا يعزل حتى عندما قام نابليون بثورته هدده البابا بتوقيع عقوبته الكنسية بالحرمان فكان رد نابليون إن بيده سلطة توقيع الحرمان من الحياة. وللحديث بقية الثلاثاء القادم.