رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حضرة المحترم.. الموظف المصرى


أكثر من 6 ملايين موظف حكومى فى مصر يديرون حركة هائلة للأوراق المصلحية فى رحلاتها غريبة الأطوار المتدفقة الإيقاع فى القليل من تحركاتها، والبطيئة فى الأغلب الأعم من مساراتها، ولكنها فى كل الأحوال ترتبط فى دوراتها العجيبة بنظم ثابتة توارثها الموظف بكل امتثال قدرى مدهش ومُعتبر وهو يتأمل بكل سعادة السلاحف حاملة ملفات أصحاب المصالح وهى تنتقل من مكتب إلى مكتب فإذا ما تفاقمت الأزمة بسبب الزيادة الهائلة فى أعداد العاملين نتذكر مقولة الكاتب الأكاديمى «نورثوكوت باركنسون» فى كتابه التاريخى الشهير «البيروقراطية».. يقول «إننى أجزم أنه إذا استطاع عشرة آلاف عامل أن يبنوا هرم خوفو فى عشر سنوات.. فإن مليون عامل لا يستطيعون بناء الهرم فى مائة سنة! وهذا هو سر الخرائب التى نراها فى كل إدارة وكل وزارة!».

يحكى لنا الكاتب الراحل على أمين بالمناسبة «لقد عشت مع الروتين الحكومى عدة سنوات.. وكان لقائى الأول به عام 1942 لما توليت منصب مدير مكتب وزير المالية لأول مرة.. فقد وجدت فى انتظارى 15 ألف ملف حكومى مطلوب منى أن أقرأها وألخصها وأعرضها على وزير المالية.. وسهرت الليالى أقرأ مئات الملفات، واكتشفت بعد بضعة أسابيع أن وزير المالية ضحية روتين عاش عشرات السنين.. كان من بين الملفات التى تُعرض على الوزير موضوع معاش الموظف الذى يقل عن خمسين قرشاً فى الشهر!..كان قانون المعاشات لا يجيز صرف معاش أقل من خمسين قرشاً.. وحتى لا تُحرم أسرة الموظف من المعاش كانت تعد مذكرة فى عشرين سطراً تُعرض على الوزير تقترح رفع المعاش من 48 قرشاً إلى 50 قرشاً!.. وكان الوزير يوقع علىالمذكرة ويحيلها إلى اللجنة المالية عند اجتماعها تحت رئاسته، فإذا وافقت اللجنة على رفع المعاش، أُعدت مذكرة جديدة يوقعها وزير المالية وتُطبع منها 200 نسخة وتُرسل إلى رئيس الوزراء لعرضها على مجلس الوزراء!..

فإذا اتسع وقت مجلس الوزراء لمناقشة المذكرة وإقرارها أُعيدت بتوقيع رئيس الوزراء إلى وزير المالية الذى يحيلها بدوره على وكيل الوزارة الذى يحيلها بدوره إلى مدير عام المعاشات الذى يحيلها بدوره على الموظف المختص!.. وكانت هذه المذكرة تستغرق الخمس سنوات للانتقال بين مكاتب وزارة المالية!.. واكتشفت أن رفع المعاش عشرين مليماً يكلف الدولة مئات الجنيهات ثمن ورق المذكرات وألوف الجنيهات من وقت الوزراء والموظفين!.. فأعددت مذكرة إلى مجلس الوزراء بإحالة اختصاص تكملة المعاش إلى 50 قرشاً إلى وكيل إدارة المعاشات!.. وتضمنت المذكرة مئات من الحالات التى كانت تضيع وقت مجلس الوزراء ووزير المالية وكبار الموظفين ومدير مكتب الوزير!.. وبجرة قلم وافق مجلس الوزراء على الخلاص من هذا الروتين الذى كان يكلف الدولة ألوف الجنيهات ويكلف الشعب الشهور والأعوام!»..

إن مآسى ومعاناة الموظف المصرى اليومية جسدتها حواديت تفوق الخيال، والتى يصل بعضها إلى حد الأساطير بداية من حدوتة شكوى الفلاح الفصيح، ووصولاً إلى أغنية «145 جنيه» التى يشيد فيها المطرب الشعبى خفيف الظل بالتقدير البالغ لجهود الموظف المصرى المتمثل فى تحديد راتبه الخيالى بــ 145 جنيهاً الذى يكفل له الحياة الرغدة الكريمة.. فيتغنى بهذا الرقم العبقرى!! ورغم كل معاناة الموظف المصرى عبر تاريخ ممتد من شظف العيش حتى مع كل محاولات رفع دخله ودعم ما يشتريه من سلع استراتيجية إلا أن الصراع الوظيفى على الكرسى الأعلى قيمة معنوية ومنحاً للمزيد من الصلاحيات والأبهة الاجتماعية يبقى هو الهاجس المسيطر على عقل الموظف ووجدانه وحلمه الذى لا يموت حتى بلوغ سن التقاعد..

وتبقى رواية «حضرة المحترم» ومبدعها الكاتب الروائى العالمى نجيب محفوظ خير الأعمال الراصدة بصدق فلسفى اجتماعى تلك الحالة الإنسانية الفريدة للموظف المصرى.. ويكفى أن نذكر القارئ بالحكم التى خلص إليها عثمان بيومى بطل العمل السيكوباتى البائس الحالم:

الحياة بدأت من خلية واحدة. الحياة يمكن تلخيصها فى استقبال وتوديع. الأخطاء ترتكب بعدد تردد الأنفاس. إن الله خلق النجوم الجميلة ليحرضنا على النظر إلى أعلى. مأساة البشرية أنها تبدأ من الطين، وأن عليها بعد ذلك أن تحتل مكانها بين النجوم. سعادتنا الحقيقية أن الله موجود. شق طريقك وسط الصخور خير من تسول صدقة من مجتمع.