رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

كيف.. ومتى نقول لا؟؟


علمونا منذ نعومة الأظافر أن نقول كلمتين « نعم ثم حاضر».. ولعل التعبيرين نقلا إلى الأجيال من اللغة العسكرية التى لا تعرف إلا «تمام ياأفندم»، ثم أطع الأوامر ولو كانت على خطأ، وما زاد الطين بلة أن المدارس أخذت ذات المنحى حتى رفعت قيمة الطاعة العمياء، فنشأ الصغار على طاعة الكبير دون تعقيب أو استماع إلى رأى آخر...

... لذلك فلا غرابة أن تنشأ أجيال السمع والطاعة دون تعقيب إلا ما يسمعه من الكبار الذين هم الآباء فالمعلمون فالرؤساء فى العمل والقيادات العسكرية، ومن تابع قصة الطفل الذى يحمل أحزمة ناسفة تنتهى بتفجير نفسه على أمل الجنات والنعم والحوريات، وكلما تحلم به الصغار فى حياة أفضل، ومن علم الطفل كيف يحب الموت بعد قتل من يراهم أعداء، إنه يستمع إلى والده والذى بدوره قد سمع ممن هم أكبر منه علماً، فالطفل لا يملك إلا الطاعة الكاملة، ولايستطيع هو أو حتى والده أن يناقش حتى لا يوصف بالمجادل. لقد نشأنا كأجيال على تعبير السمع والطاعة، وكبرنا وكبر الولاء والاحترام للسلطة، وهذا محمود، لكن غير المحمود أن تقول نعم عن غير اقتناع، بل فى داخلك تريد أن تقول لا، وقد رأت عيوننا دورات متواترة للمجالس النيابية عندما تملى القرارات ويعقبها السؤال موافقون؟ وقبل أن يرفع قائد الجلسة نظره من الأوراق يردد كلمة موافقة لأنه يدرك أنه لا مكان لمعارض، وبالتالى ضياعاً لوقت المجلس دون طائل حتى ارتفعت نسب التغيب عن الجلسات المخصصة للتقارير الصادرة عن لجان المجلس. لقد كتب أحدهم هذه العبارة « كم من المرات التى قلنا فيها نعم وكان الواجب أن نقول لا، وكم من المرات قلنا- ربما فى أماكن أخرى -قلنا لا وكان الواجب أن نقول نعم وألف نعم، أما من يعتقد، أويحل له أن يقول نعم حتى لا يشارك فى أعمال تحسب عليه يوماً ما، فيتخذ الحلول الوسطية بالامتناع عن التصويت، أو بالتغيب عن الجلسة، فهذا تقصير يحسب عليه أمام من فوّضوه عنهم يوماً،والحساب آت لا ريب فيه.

والمتتبع إلى حدث قد يكون فى ذكرها دافعاً إلى تجنبها عندما نقرأ قصة رجل يخاف الله لقب بأول شهيد فى المسيحية لأنه قال للحاكم تعبيراً أصبح راسخاً فى القلوب قبل الأذهان « لا يحل لك»، قيلت الكلمة إلى ملك قاتل ومعتد على ضحاياه، والشريعة لم تكن تعطى للقاتل أن يتزوج أرملة من قتله» ، فجاءه صوت الحق « لا يحل لك».

أما الرواية الأخرى والتى جرت أحداثها على الأرض المصرية يوم أن رفض يوسف الصديق أن يقول نعم لزوجة رجل فى المركز الثانى بعد الفرعون، وعبارته الشهيرة « كيف أقول نعم وأخطئ إلى الله، فاختار يوسف أن يظل فى سجن قد ينتهى بموته ولا يقول نعم وفيها نعيم مقيم، ولكنه اختار أن يدفع ثمن الاستقامة بسجنه وربما حياته.

إن أول درس يتعلمه الطفل فى بلاد الديمقراطية أن تقول « لا» فى أدب واحترام، بل يعلموهم قيمة الخلاف فى الرأى ( كما نقول نحن ) لا يفسد للود قضية، وفى حقيقة الأمر أنه يفسد كثيراً من الود حتى ينعت صاحبه أنه مخالف ومشاغب وغير مقدر للكبار سناً أو علماً، وفى بلاد الفرنجة، كما يطلق عليهم، يقولون للأطفال عندما تقولوا نعم فأنتم لا تضيفون جديداً ولا تعلنون سراً، أما اذا رأيت إضافة فأنت مبتكر، فقط تعلم متى تقول نعم ومتى تقول لا دون أن تشعر بذنب ارتكبته.

وهم يقولون للطفل، وبالطبع تنطبق على كل الأعمار « تأكد وأنت تقول موافق لمجرد إرضاء الآخر فهناك شخص آخر يعلم أنك تريد أن تقول «لا»، ولكنك لا تملك الشجاعة أن تقولها، والنصيحة الأخرى تقول «تأكد أن كلمة لا هى إجابة كاملة لا تحتاج إلى تفسير أو تبرير فى الكثير من المواقف».

أما من يحاولون إيجاد تعبيرات أخرى بديلة عن نعم ولا فى محاولة للهروب من التعبير الواضح، أى أصحاب نصف الحلول، أو منتصف الطريق، أو تجنب غضب مسئول، فيختار لفظاً لا يغضب أحداً مثل لست متأكداً أو يحتمل المعنيين (نعم ولا)، وأنت تعلم أن القرارات لا تتخذ بهذا المعنى، فتصنف فى جانب «ممتنعون» عن التصويت.

أما النصيحة التى لا تقل أهمية « تأكد وانت تقول نعم أنك فى داخلك تقول لا». أما جماعة الرفض للرفض كما يطلق عليهم، فهم من يأخذون موقف المعارضة للمعارضة، ولا يقبلوا أية آراء مهما كانت درجة أهميتها لأنها صادرة عن الجانب المعارض، وفى المجتمعات الشرقية غالبا ما تصدر المعارضة من الجانب المعارض حتى أطلق عليهم تعبير « حزب المعارضة»، ولأنهم وصفوا هكذا فهم لايوافقون - فى الغالب-على آراء الغالبية حتى وصف الرافضون بأنهم جماعة، أو حتى حزب المعارضة أو الأقلية.

أما النصيحة التى يمكن أن توجه للأغلبية عادة « لا تغضبوا من المعارضين ولا تهملوا أفكار الذين قالوا «لا»، بل استفيدوا من المعارضين لتقدموا ما هو أجمل وأقوى إلى شعبكم. أما النصيحة - أن جاز أن نسميها نصيحة - لا تغضبوا من المعارضة، أو من قال «لا» ، وإلا فالأفضل أن لا تسألوا وتطلبوا الرأى، بل كن متوقعا ومستعدا لصوت المعارض قبل الموافق الذى لا ينتظر منك تبريرا لما عرضت. أما النصيحة التى يمكن تقديمها للجانب المعارض فهى على النحو التالى

١- أحظر المعارضة لمجرد الرفض، بل لا تتردد أن توافق على الرأى الآخر حتى لو صدر عن صوت صاحبه فى جانب غير جانبك أو جماعتك أو حزبك

٢- اعرف أن صوتك مؤثر ولو فى جانب الأقلية، إلا أنه يصل إلى الغالبية، وإن لم يقبل اليوم فسيأتى اليوم الذى تقبله الأغلبية، وقد تتبناه.

٣- لكل عضو فى موقع المسئولية «اعرف تبعات رأيك وصوتك، وأنك مؤتمن على أصوات دائرتك».

٤- تأكد أن صوتك الرافض لا يحتاج إلى مبررات وكأنك ترتكب فعلا شاذاً، فلا تحاول تبرير فعلك أو الاعتذار عنه.

٥-حاول أن تقدم حلاً آخر، فإذا استطعت فأنت خدمت الفريقين وقدمت عملا مفيدا للجميع.

وبعد ما يمكن تسميته بوصايا عشر، فلنعلم جميعاً أن كلمة نعم تساوى وعداً وعهداً، لا سيما فى المواقع التى بيدها القرار، فليتذكر كل عضو أنه أقسم بعهد ووعد أن يحترم الدستور والقانون، ويرعى مصالح هذا الشعب رعاية كاملة، وأن مخالفتك هذا الوعد والعهد تفقدك الثقة والاعتبار التى أولاك أبناء دائرتك إياها، فحافظ على عهدك، وكن عند وعدك، واعلم أن الغد لناظره قريب.