رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الستر والفضيحة فى زمن العولمة


فى مجموعة مشاهد سينمائية ساخرة بالغة الروعة والحرفية قدم المخرج العبقرى داود عبد السيد فى فيلمه الأشهر «الكيت كات» بطل الفيلم «الشيخ حسنى» الكفيف بأداء مبدع للفنان محمود عبد العزيز بصدق وتلقائية وتفرد وتواصل حقيقى مع التركيبة الإنسانية للمواطن المصرى البسيط..

فى بداية أحد تلك المشاهد يفتح الشيخ حسنى سماعات ميكروفون سرادق العزاء ليتحدث وكأنه لا يدرى أن صوته يصل إلى كل شوارع وبيوت حى «الكيت كات» فيفضح برؤية البصير عبر حديثه اللاذع الساخر كل المستور من تفاصيل حياة أهل الحى الذى لم يره كل المبصرين...

... أو من كانوا يتصورون أن أفعالهم الشريرة لا يعلم بها أحد ولا يعرف الناس مرتكبيها.

وفى مونتاج متسارع ولاهث نرى الكاميرا وهى تجوب مواقع الرذيلة فى مباغتات متلاحقة يعلق عليها بطل الفيلم وتتباين ردود أفعال المفاجأة فى تصاعد درامى تتولد منها حالة كوميدية تعتمد نهجاً منطقياً مقنعاً وصادقاً فأثار ضحكات المشاهدين إلى حد القهقهة. ولكن ورغم عبقرية المشاهد وواقعية تناولها وصدقها وتلامسها مع الواقع.. إلا أن الواقع يظل يقدم كل يوم مشاهد حية زاخرة بالكوميديا تفوق فى غرابتها وإثارتها وطرافتها ما قد يصل إليه خيال مبدعى الفن السابع.. وليسمح لى أهل السينما وبلغتهم أن أحكى واقعة، وهى التى ذكرتنى بفيلم «الكيت كات» لتشابهها فى أجزاء من الفكرة الرئيسية:

 مشهد «نهار/ خارجى» الركاب فى إحدى المحطات السطحية لمترو الأنفاق يتدافعون فى تزاحم شديد نحو أبواب عربات المترو فور وصوله بينما تتعالى همهمات وشتائم بين الركاب لفوضى عمليات الصعود والنزول حتى يتم قفل الأبواب بصعوبة بالغة ولا يهم خروج بعض من أجساد الركاب أو نهايات ملابسهم أو حقائبهم خارج الأبواب..«قطع».

 مشهد «نهار/ داخلى».. بينما الركاب داخل عربات المترو يحاولون بشق الأنفس إيجاد مكان لأقدامهم ومواسير يتعلقون ويتشبثون بها لتدفع عنهم مغامرات المترو المشاكس عند التوقف أو السير المفاجئ أو تغيير السرعة المباغت.. وبينما هم يعيشون هذه المعاناة تنطلق من سماعات العربات تحذيرات عنيفة من السائق بضرورة ابتعاد الركاب عن الأبواب.. وكأنه لا يعرف بأمر أطراف بعض الركاب ومتاعهم التى مازالت خارج القطار تنعم بالحرية فى الهواء الطلق.. «قطع».

 مشهد «نهار/ خارجى».. الكاميرا تتابع من الخارج المترو منطلقاً بينما أبوابه خارجاً منها بعض من أجساد الركاب ومتعلقاتهم، أصوات مشاحنات الركاب ومخرجات صراعاتهم الكلامية التى ينفسون بها عن حالة الضيق وصعوبة التنفس بعد التصاق الأجساد، وتلاشى المسافات التى تسمح بأى تحرك آدمى.. «قطع».

 مشهد «نهار/ داخلى».. بينما الركاب يتصببون عرقاً يسود الهدوء يأساً من تحسن الأوضاع، وعلى حين غرة ينساب عبر سماعات المترو حوار بين سائقى المترو فى مقدمة المترو ومؤخرته على النحو التالى: الأول: يا حسن الواد شوادفى جاب الفول والطعمية وكله سخن والثانى مقاطعاً: المهم جاب خضرة وطرشى والذى منه.. الأول: طبعاً بس انت خلص فى يومك اللى مش فايت ده الثانى: إيه مالك؟ الأول: يا سلام كأنك مش معانا فى المصلحة.. يعنى عاجبك اللى عملوه فى فتحى زميلنا.. دى الحكاية مكتوبة فى الجرانين..الثانى: آه ما أنا عارف هوه كمان مالوش حق يخلف ويرجع يعيط ويطلب قرض.. يطلب قرض إزاى وهوه موظف صغير.. المصلحة عايزانا من غير عيال.. منه لله مهابة بيه.. ادعى معايا الله يخرب بيته.. قول آمين.

وهنا يزأر جموع الركاب على قلب رجل واحد غضباً وثورة على كل مهابة بيه رافعين أكفهم وقلوبهم صارخين بكل ما أوتوا من قوة.. «آمين».. «صورة ثابتة لأكف مرفوعة لبشر تلاشت ملامحهم عبر الزحام».. ويُقال إنه فى أعقاب المشهد النهائى انخرط الركاب فى ضحك هستيرى.. إنها كوميديا شهدها آلاف الركاب، بل وشاركوا فى أداء المشهد الأخير فى تصاعد دراماتيكى لملهاة يومية لكنها هذه المرة بنهاية مغايرة.. وللستر والفضيحة مشاهد أخرى فى زمن العولمة فى مقال قادم!!