رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مشاهد أبوية رائعة


فى غمرة الأحزان التى يجتازها الإنسان إزاء الأحداث المؤسفة التى تحيط بالوطن وبالكنيسة، تأتى إلى الذاكرة – بتلقائية شديدة – بعض المشاهد التى تكشف عن روح أبوة صادقة من رجال الله الأتقياء الذين عاشوا ببساطة وحكمة وصدق فى محبة الله والارتباط الحقيقى به.

فى 7 مايو 1969 كان البابا كيرلس السادس قد أوفد أحد كهنة الإسكندرية المشهود له بالحكمة والخدمة الواعية إلى مدينة لوس أنجلوس الأمريكية هو الأب بيشوى كامل إسحق – بكنيسة مارجرجس باسبورتنج بالإسكندرية - لتأسيس كنيسة هناك ورعاية الأقباط. وفعلاً بدأت خدمته بهدوء والتف حوله الشعب بحب لأنه كان رجل الله بالحقيقة. وبعد فترة من الخدمة – كما يذكر الأب بيشوى – أنه لاحظ فور انتهاء صلوات يوم الأحد كان أحد الشباب يغادر الكنيسة مسرعاً دون التوجه للسلام على الكاهن كما أعتاد الأقباط أن يفعلوا. تكرر هذا المنظر عدة مرات مما استرعى انتباه الأب الكاهن. هذا الأمر شغل فكره لأنه أب. ففكر فى وسيلة يقترب بها من الشاب ليعرف حقيقة أمره. وفى إحدى المرات، توجه الأب الكاهن إلى باب الكنيسة قبل أن يغادر الشعب، وحينئذ أمكنه أن يمسك بيد الشاب واستفسر منه عن حقيقة أمره. فلم يجد الشاب وسيلة للهروب. فقال الشاب للأب الكاهن: هل لا تتذكرنى؟ فقال الكاهن: لا أتذكر أى شىء، من أنت؟ فقال الشاب بكل خجل: أنا فلان يا أبونا وكنت قد اختلست منك مبلغاً من المال فى كنيسة الإسكندرية. وهنا لم يتمالك الكاهن نفسه، وجذب الشاب واحتضنه بأبوة وقال له: (ما تقولش كده، ده أنت ابنى. أنا حضرت هنا لخدمتك أنت وأخوتك). ومنذ ذلك الوقت صار الشاب قريباً من الأب الكاهن الذى خدمه بالحب والبذل الحقيقى.

أيضاً فى مايو 1967 تهجم بعض الشباب – مدفوعين من أحد الأشخاص – على البابا كيرلس السادس عند المقر البابوى بالأزبكية. وما أن علمت مباحث الدولة بالواقعة حتى توجهت فوراً إلى البابا كيرلس لأخذ موافقته بالقبض عليهم. حينئذ قال لهم: (هؤلاء أولادى وأنا أبوهم، صفارة تجمعهم وعصا تفرقهم، ولا أريد أن أشرد أولادهم وبيوتهم لكن بالحب سوف أحل مشاكلهم). وتم حل المشكلة وعاد الأبناء إلى حضن الأب، فى عام 1994 نشب خلاف شديد بينى وبين البابا شنودة الثالث بسبب إصرارى ومطالبتى بالأحتفاظ بمقر بابوى قديم بالإسكندرية كان أصلاً ديراً كما أن 9 من بطاركة الكنيسة أقاموا فيه ابتداءً من البطريرك 109 (البابا بطرس الجاولى)، وطبعاُ أهل المشورة الرديئة – كما هى الحال فى كل زمان – تدخلوا لزيادة الفجوة. وكان البابا شنودة فى اجتماعاته مع كهنة الإسكندرية يعبر عن غضبه ومهاجمتى. فى يناير 1997 توجهت إليه فى مناسبة من المناسبات وقلت له – وأنا ممسك بيده – أنا فلان، وهنا وجدت ابتسامة أب عريضة ارتسمت على وجهه وقال: «ياه – والتى استغرقت بضع ثوان – ثم أضاف قائلاً: هو أنت؟ ثم احتضننى». ومن ذلك الوقت صار هو الأب المحب وأنا الابن الوفى، وتناقشت معه بكل صراحة وعدم خوف فى موضوعات شتى. بل كنت المصدر الذى من خلاله يتعرف على آلام شعبه ومشاكلهم، الأبوة لا تتجزأ، والمناصب تصنع رؤساء ومديرين لكن لا تصنع آباء. الأبوة تزيل جبال الثلج وتحطم قُوى الشر.

أستاذ بكلية الهندسة - جامعة الإسكندرية