رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مشهد رائع من موكب استشهاد


(طوبى لمن اخترته وقبِلته ليسكُن فى ديارك إلى الأبد. سنشبع من خيرات بيتك. قدوس هو هيكلك وعجيب بالبر) بتلك الكلمات تودع الكنيسة أبناءها الذين انتقلوا إلى الراحة الأبدية. ففى مفردات الكنيسة لا توجد كلمة «موت» بل «انتقال» ولا توجد كلمة «وفاة» بل «نياحة» (أى الراحة). نحن الآن أمام موكب رائع فى طريق الاستشهاد!! قدمه لنا 21 مصرياً سبق الله وأعدهم لتلك المهمة المقدسة. مشهد أعاد لأذهان الأقباط العديد من المواقف المماثلة. أذكر منها: منظر رأس القديس يوحنا المعمدان وهى مُوضوعة على طبق من الفضة مُقدمة لهيرودس الملك، فصار القديس يوحنا رمزاً للشجاعة والمجاهرة بالحق. منظر البابا بطرس البطريرك 17 (المعروف بلقب خاتم الشهداء) الذى مد رأسه للسياف – بعيداً عن نظر الأقباط بالكنيسة – حتى ينجى أولاده من حد السيف، هذا الذى صار رمزاً للأبوة الأمينة والباذلة. منظر الأم دولاجى – قديسة إسنا – التى سمحت بأن أولادها الأربعة الصغار يُذبحون على ركبتيها الواحد تلو الآخر خوفاً من أن يتركوا الإيمان بعد أستشهادها، فصارت رمزاً للأم الواعية. منظر الأم رفقة – قديسة سنباط – التى تمسكت بإيمانها فأمر الوالى بقطع رأسها مع أولادها الخمسة وطرح أجسادهم فى البحر، هؤلاء صاروا رمزاً للشجاعة والقلب الممتلئ بالإيمان. فى القرن الخامس الميلادى شدد القيصر «ليو» الاضطهاد على الأقباط ففى 29 أغسطس سفك دماء 30 ألف مسيحى بالإسكندرية خرجوا فى موكب الاستشهاد، هؤلاء صاروا رمزاً للإيمان القوى المُلتحف بالشجاعة. كل هذه المشاهد وغيرها رأيناها فى أبانوب عياد، لوقا نجاتى، بيشوى أسطفانوس، صموئيل أسطفانوس، مينا فايز، مينا شحاتة، جرجس ميلاد ... وغيرهم، ساروا فى موكب جليل وهم متهللون ولسان حالهم يقول: (لى اشتهاء أن أنطلق وأكون مع المسيح ذاك أفضل جداً). ففى اللحظة التى انتقلوا فيها بحد السيف غابت عن أعينهم أضواء العالم، وانفتحت أمام أعينهم أنوار الأبدية السعيدة، حيث المكان الذى أعده لهم الرب.

والكنيسة القبطية الواعية تعد أولادها يومياً للاستشهاد عن طريق قراءة كتاب «السنكسار» أى (سير الآباء الشهداء والقديسين) فى كل قداس على مدار السنة، ليرى الأبناء كيف تقبل الآباء والأجداد الآلام بشجاعة وفرح. لعل إخوتنا وأبناءنا الشهداء رأوا أمامهم السماء مفتوحة – كما حدث مع القديس أسطفانوس فى القرن الأول الميلادى – ولسان حالهم يقول: (يارب لا تقم عليهم هذه الخطية). لقد عاين هؤلاء الأبرار أمجاد السماء، بينما القتلة اُغلقت أعينهم، لأن قلوبهم كانت غليظة وأفكارهم شريرة وحياتهم رديئة. لقد وصلتنا صورتهم وهم فى حالة صلاة متمسكين بالإيمان. وفى صمتهم رددوا تسبحة خالدة، تسبحة الغالبين، تسبحة المنتصرين على الشر. لقد تعلم هؤلاء الشهداء الأبرار فى مدرسة أم الشهداء التى علمتهم: (لأننا نعلم أنه إن نُقض بيت خيمتنا الأرضى، فلنا فى السماوات بناء من الله، بيت غير مصنوع بيد، أبدى)، والخيمة الأرضية هنا هى جسد الإنسان.لقد خرج هؤلاء من الضيقة العظمى إلى مدينة الأحياء، أو كما يقول التعبير الكنسى الرائع «أورشليم السمائية» ومن ذلك الوقت دخلوا الراحة الأبدية متسربلين بثياب بيضاء وحاملين فى أيديهم سعف النخيل كمنتصرين. صلوا من أجل العالم الذى يئن من الظلم.

أستاذ بكلية الهندسة ــ جامعة الإسكندرية