رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حج فإنك لم تحج


يا لخسارتك يا مسكين لو ذهبت للحج وأنت تحمل دنياك وشغلت نفسك بمعاركك وصراعاتك، ساعتها ارث لنفسك فقد حرمتها من مناجاة الله بقلبك، ساعتها ستعود من رحلة الحج وسيقبل عليك أهلك لتهنئتك، وستقدم لهم الهدايا التى حملتها، ولكنك ستعود إلى ديارك وكأنك لم تحج. أما إذا عدت من الحج وقد أديت المناسك بوجدانك قبل

يا أيها الذى استشعر مشقة الحج ولم يستشعر حلاوته: حج فإنك لم تحج، إذ يبدو أنك لم تحج بقلبك فشعرت بالمشقة، أو أن المشقة غطت على اللذة الروحية، فإنك إذا رأيت بعينيك مشهد الحجيج وهم يؤدون المناسك فسوف يهتز فؤادك ويقشعر بدنك، فما بالك إن رأيته بقلبك واندمجت فيه بكل جوارحك؟ وإذا كان الطواف حول الكعبة ـ مع ما فيه من مشقة الزحام والتدافع ـ يرتقى بوجدانك إذا طفت وأنت مدرك مقاصده ونسكه وفقهه، فما بالك إذا طفت بقلبك وأنت مستشرف حقيقته ونورانيته؟ وإذا كان السعى بين الصفا والمروة ـ مع الجهد الذى تبذله فيه ـ يعيد لك تلك اللحظات التى عاشتها السيدة هاجر وهى تسعى بين الجبلين للعثور على نبع ماء يحفظ لابنها إسماعيل حياته فما بالك إن سعيت وأنت مدرك فوق هذا أنك تسعى فى توحيد الله بين لا إله إلا الله ومحمد رسول الله.. تسعى بين الربوبية والألوهية، وإذا كان رجم إبليس من مناسك الحج فما بالك إن رجمناه فى الحج وأكرمناه بقية العام فهل أدينا بذلك مناسكنا؟ قال أحد الصالحين «طهر قلبك من إبليس قبل أن ترجمه بالحصى»، وإذا وقفت فى عرفات وقد انشغل قلبك بالدنيا فإنك لم تقف، ولكن إذا استشعرت بقلبك يوم الوقوف الأعظم بين يدى الله فإنك سترمى الدنيا من قلبك وستنشغل بحالك عن حال الناس، وإذا أقمت فى منى وشغلت قلبك بذكر الله فأنت فى معية الله ومن كان فى معية الله فهو حسبه حيث تهون الدنيا وما فيها وكأنها جناح بعوضة.

إنك إذا استشرفت مناسك الحج بقلبك واستقبلتها بفؤادك واندمجت فيها بمشاعرك فلن يكون هناك موضع لإبليس فى قلبك يحول بينك وبين قبلتك، ولن يكون هناك رفث ولا فسوق ولا جدال، لن يكون هناك فى قلبك دنيا تصيبها أو مغنم تصبو إليه أو ناس تنشغل بهم عن ذكر الله.. لن تحرم نفسك من متعة قيام الليل والسجود لله آناء الليل وأطراف النهار.. جاء رجل إلى الحسن البصرى وقال له: أعيانى قيام الليل «أى حاولت قيام الليل فلم أستطعه» فقال: قيدتك خطاياك.. وجاءه آخر فقال له: إنى أعصى الله وأذنب، وأرى الله يعطينى ويفتح علىَّ من الدنيا، ولا أجد أنى محروم من شىء، فقال له الحسن: هل تقوم الليل؟ فقال: لا، فقال: كفاك أن حرمك الله مناجاته، فإذا انشغلت بإرضاء الناس عن إرضاء الله، فهل تظن أنك كنت تتجه لله بقلبك فعلاً، أم أنك كنت تتجه للناس فقط، هى مسألة منطقية، إذا انشغلت بالحج ومناسكه فإنك لن تنشغل بالناس وعيوبهم، ولن تسعى إلى إرضائهم بغضب الله، فرضا الناس غاية لا يدركها أحد، وقد قيل للحسن البصرى رضى الله عنه «إن قوماً يجالسونك ليجدوا بذلك إلى الوقيعة فيك سبيلاً» ـ أى يتصيدون الأخطاء ـ فقال: «هون عليك يا هذا، فإنى أطمعت نفسى فى الجنان فطمعت، وأطمعتها فى النجاة من النار، فطمعت، وأطمعتها فى السلامة من الناس فلم أجد إلى ذلك سبيلاً، فإن الناس لم يرضوا عن خالقهم ورازقهم فكيف يرضون عن مخلوق مثلهم؟».

ويا لخسارتك يا مسكين لو ذهبت للحج وأنت تحمل دنياك وشغلت نفسك بمعاركك وصراعاتك، ساعتها ارث لنفسك فقد حرمتها من مناجاة الله بقلبك، ساعتها ستعود من رحلة الحج وسيقبل عليك أهلك لتهنئتك، وستقدم لهم الهدايا التى حملتها، ولكنك ستعود إلى ديارك وكأنك لم تحج. أما إذا عدت من الحج وقد أديت المناسك بوجدانك قبل أن تقوم بها ببدنك فلن يغفر الله لك فقط ولكنك ستكون ذلك المسلم الذى قال عنه أحد الصالحين إن من علاماته، قوة دين، وجزم فى العمل وإيمان فى يقين، وحكم فى علم، وحسن فى رفق، وإعطاء فى حق، وقصد فى غنى، وإحسان فى قدرة، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يصلح حالنا جميعاً وأن يتقبل منا صالح الأعمال إنك يا رب مجيب الدعاء