رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الزعيم

عادل أونتيل - المغرب
عادل أونتيل - المغرب

يستيقظ الحمار من سباته العميق بعد أن لفحت الشمس الضارية جسده الهزيل.. يتمطى ويتمدد ثم يتمرغ مثيرًا عجاجة من الغبار.. يطلق حنجرته الذهبية فى نهيق مسترسل.. يهب واقفًا فيكاد يتهاوى تحت سياط الجوع.. آه ما أبأس أن تكون مشردًا بلا سقف حنون يأويك ولا لقمة يابسة تسد رمقك!!.. ولكن مهلًا أوليس هذا أهون من أن تكون شسع نعل لبنى البشر؟!!.. يحمّلونك من الأثقال ما لا طاقة لك به ويسمعونك من القول أغلظه.. أما ثالثة الأثافى فهو الضرب، حيث يتفننون فى الفتك بك وكأنك هاتك عرضهم، وعندما تدب الشيخوخة فى عظامك يأنفون منك كالجثة النتنة، وربما يحرقونك حيًا!!.. ألا سحقًا لكم أيها اللئام المتاعيس!!.. ما استطعتم يومًا أن تخمدوا نيران التمرد المتأججة فى صدرى!!.. يطفق متسكعًا بين الدروب والذكريات تنثال على لبه.. لقد كان ولا يزال حمارًا ذكيًا ألمعيًا خُلق لغير هذا الزمان يتفتق لبه عن أفكار ما مرقت بذهن أحد.. ترفع بإباء وشموخ عن حمل الأثقال!!.. فتارة يتظاهر بالإنهاك والتعب منتهزًا الفرصة ليستمتع بقيلولة لذيذة، وتارة أخرى يهدى إلى صاحبه ركلة قوية تطيح بأسنانه إن هو تهور وسولت له نفسه ضربه؛ فما يكون من صاحبه عندئذ إلا أن يبيعه بأبخس الأثمان!!.. وسبحت ابتسامة عريضة على شفتيه الغليظتين.. فذات مرة وقع بين براثين جلف نجس سامه من التعذيب صنوفًا ومن التنكيل أنواعًا، استبد به السخط فخطرت على ذهنه حيلة ماكرة.. على أحر من الجمر أخذ يترقب قدوم زوجة الوغد إلى الزريبة لتعتنى بشئونه فيسمعها كلمات أحلى من الشهد!!.. كلمات غزل تذيب الصخر الجلمود وتومض فى جوانحها نوارس تنشد الدفء فى الليالى الماطرة.. فى إحدى الليالى هب الحقير من نومه فتفقد زوجته فما وجد لها أثرًا!!.. فغر فاه اندهاشًا وتعجبًا عندما رأى حرمه المصون ربة الطهر والعفاف تراود الحمار عن نفسه!!.. تسمر فى مكانه كتمثال من حجر، ثم ضحك ضحكة هيستيرية أعقبتها صرخات رهيبة كصيحات مردة هربت من القمم!!.. كادت المسكينة تزهق روحها من شدة اللكمات والركلات، أما صاحبنا الألمعى فأطلق ساقيه للريح بعد أن أصاب من الوليمة ما لذ وطاب!!.. إن له نفسًا عفيفة ليضن بها أن يكسوها اللحم والعظم!!.. أو لم تكن أمه تظن به مسًا كلما أفضى إليها بهواجس تجوس فى خاطره.. منذ نعومة أظافره وحدس يربض فى صدره أن السماء طوقت عنقه بمهمة جسيمة: إنقاذ بنى جنسه من الذل والهوان!!.. ألذ الأوقات عنده حينما يختلى بنفسه مبحرًا فى لجة الخيال فیری نفسه زعيمًا صنديدًا وخطيبًا مصقاعًا يشحذ همم الحمير ويحرضهم على الثورة والانتفاضة!!.. ولكن لكى يصبح قائدًا محنكًا يجب أن ينهل من حياض العلم... هذا هو الهراء بعينه، إن العمر قصير ويمضى كطيف ولن يضيعه فى سفاسف الأمور وتوافهها.. انظر إلى النواب البرلمانيين.. إنهم لصوص خمس نجوم لا يحسنون شيئًا سوى النهب والرقص على إيقاع الكلمات واستعراض مؤخراتهم أمام عدسات الكاميرات، أما هو فمنظره يوحى بالثقة والاطمئنان، علاوة على أن عبق القضية يتغلغل فى مسامه!!.. سرت الحمية فى نفسه فصار يصادق بعض الحمير مما يتوسم فيهم العزة والأنفة فيسر إليهم بما يهيم فى جوارحه، ويبشرهم بالغد القادم على أجنحة الشموخ والكبرياء!!.. تهيم عليه الأسئلة من شفاه يائسة فيبلل ريقها بأمان وعذاب.. بعد مدة ليست باليسيرة التف حوله جمع غفير من المناصرين وتعددت لقاءاتهم السرية فى الحقول والحظائر فى ليلة تربع فيها البدر على عرشه.. انسل الحمير من الحظائر واجتمعوا فى الغابة وتجول الزعيم ببصره بين الحاضرين والعزيمة تطفح من مقلتيه وجبينه يتلألأ تحديًا وصمودًا.. ها هو ذا حلمك يعشعش فى ضلوع ترسم بالعشب الغض هديلًا سابحًا فى الأفق.. نهق وابتلع ريقه ثم قال:

- يا معشر الحمير لقد بلغ السيل الزبى وجاوز الحزام الطبيين ولقد طمى الخطب حتى غاصت الركب فأفيقوا واستفيقوا من سباتكم العميق، ما لكم وقد غدا الذل لكم كساءً والهوان لكم رفيقًا، أولستم بناة حضارة بنى الإنسان ومشيدى مجده على مر الأزمان؟.. أو لم تحملوا عنه أثقالًا تنوء بها أعتى الجبال.. فما باله يتنكر لصنيعكم ويجافى معروفكم ويلبس لكم جلد النمر، بل الأدهى من هذا كله أنه يتخذكم مضربًا للبلاهة والغباء.. إن نفوس بنى البشر تتقيح لؤمًا وخسة، فلا تأخذنكم بهم رحمة ولا شفقة، فإما أن نقتسم مباهج الحياة وننعم معًا ببحبوحة العيش، وإما فالحرب بيننا ولن نرفع عنهم قوائمنا حتى نفنيهم عن بكرة أبيهم وعلى الباغى ستدور الدوائر.. وإنها لمعركة حتى النصر.

توقد الحماس الأهوج فى ضلوع الحمير فتعالى الصفير والتهليل وأثاروا العجاجة بحوافرهم وتوعدوا بنى البشر بالويل والثبور وعظائم الأمور!!.. فى هذه الأثناء تنبه الفلاحون إلى اختفاء معظم الحمير من الحظائر فخمنوا أن وراء الأمر عصبة من اللصوص!!.. فتسلحوا بالنبابيت والمناجل والفئوس وتقاطروا زرافات ووحدانًا إلى الغابة!!.. تناهى إلى الحمير أطيط أحذية تمزق كبد الليل فسرت القشعريرة فى أوصالهم.. توهم الزعيم أن القادمين يحملون بين جوانحهم رغبة تتحرق إلى وأد الثورة المظفرة قبل أن تغمر بنورها أرجاء المعمورة، فلملم همات نفسه واستجمع شجاعته وأوصاهم بالثبات فى أرض المعركة والاستبسال حتى آخر رمق!!.. تنفس الفلاحون الصعداء حينما عثروا على الدواب فعمدوا إلى سوقها وبغتة نهق الزعيم بعنفوان الموج الهادر فسدد الحمير ركلات قاضية إلى البطون الهزيلة، وأنشبوا أسنانهم الفتاكة فى الأجساد النحيلة.. دارت رحى معركة رهيبة انقشعت عن انسحاب الفلاحين والخيبة تدمى أعقابهم والذهول يعقد ألستنهم.. هام الحمير على وجوههم فأثاروا الفوضى والرعب فى كل قرية يمرون بها.. يسطون على المحاصيل ويحرقون ما تبقى منها ويفكون وثاق إخوانهم منفضين الثرى عن التمرد المنبكم فى حشاشتهم!!.. أدرك الناس أن الحمير عصفت بهم نوبة من الجنون.. فشددوا الحراسة الليلية ونصبوا لهم الكمائن وطاردوهم فى أقاصى الأرض!!.. الجوع وحش أعمى ضرسهم بنيوبه الفتاكة وصيرهم أشلاء تنتحب فى العشيات الحزينة شيئًا فشيئًا.. انفرط الأتباع من حول الزعيم كحبات العقد.. انسرب الحزن إلى دواخله فتفجرت ظلال الألم من كبده فتناثر شفقًا يعانق شذى الرحيل.. جلبة محمومة تطرق سمعه فيستفيق الحمار من تهويماته ببصر مكدود يتسكع بين تقاسيم مغمسة فى وحول الضعة والخسة.. ها هو ذا الآن أصبح يهيم فى شوارع المدينة.. بركلة رائعة يقلب برميلًا فارغًا رأسًا على عقب فيتشممها باحثًا عن لقمة يقذف بها إلى جوفه.. يدمدم السخط فى مهجة حلاق فيخرج من دكانه ملوحًا بعصا مكنسة.. ما أن يبصر الزعيم حتى تتهاوى العصا من يده ويشير إليه مستلقيًا على قفاه من شدة الضحك.. جمع غفير من الناس يتحلقون حوله.. الشيوخ والنسوة يتعجبون: الشباب يهرجون ويتندرون، أما الصبية فيهللون ويتصايحون.. أى جنون أطاح برءوس بنى البشر!!؟.. يطلق ساقه للريح فيخرج الناس من كل حدب وصوب وينتشون بملاحقته!!.. سيارات كالحة تقذف صنوفًا من كلاب جرباء تلوح بعصا غليظة!!.. خنزير متهدل البطن ذو رقبة غليظة وعينين زجاجيتين يمسك جهازًا لاسلكيًا ثم يمسح العرق المتصبب من جبينه وينبح:

- حاضر.. حاضر يا سيدى سنقبض على الحمار حيًا أو ميتًا.. اطمئن من هذه الناحية سنقتفى آثار الجناة ولو اختبأوا فى بطون أمهاتهم وسنقذف بهم خلف الشمس!!.

الكلاب الهمجية تطوق أرجاء المكان.. الرعب يطعن جنان الحمار.. لا غرو أنهم توصلوا بتحرياتهم السرية إلى مدبر الثورة وها هم الآن يطالبون برأسه!!.. تراهم متعطشين للنهل من حيض تجربته المحنكة وليس ببعيد أن يسندوا إليه منصبًا رفيعًا!!.. بيد أنه سيعمد إلى ملاعبتهم قليلًا.. السوق على مرمى حجر منه.. تعترض سبيله كوكبة من الكلاب فينط بينها ليصبح وسط الحلبة.. تقتحم الكلاب المسعورة السوق ويختلط الحابل بالنابل وتعم حالة من الذعر والفوضى والضجيج والعجيج!!.. الناس يحسبون أن الكلاب النتنة تنقض عليهم فيتأهبون لمواجهتها بكل ما أوتوا من قوة!!.. شبح الحرمان يومض فى ثنايا النفوس المنكسرة فتمتد الأيادى المعروقة للسطو على الطماطم التى أضحت غادة حسناء تسكر الجيوب بروائح أثمنتها الصاروخية.. الحمار يقفز بين الخيام فيهشم الأوانى ويحطم صناديق الخضر والفواكه فتهوى الخيام على رءوس أصحابها!!.. هواة رياضة الأصابع يقتنصون الفرصة السانحة فيسرقون ما خف حمله وغلى ثمنه!!.. التجار يحثون تراب الحسرات على رءوسهم.. الكلاب تحاول جاهدة تسكين روع الجماهير وتحلف أنها لا تبتغى سوى القبض على الحمار، ولكنها كمن يرقم على الماء!!.. الأيادى الغاضبة ترشقها بالصحون والأوانى فتبدو السوق كموضع يتعرض لغزو كائنات فضائية أسلحتها البيض والخضروات، علاوة على الحجارة التى لا تخطئ شج الرءوس!!.. الكلاب الضالة تتراجع بيد أن المعمعة ما زالت تدك بسنابكها.. فرح طفولى يعبر خلايا الحمار فتتفتق نشوة مزدهرة بنجيمات غبطة تسيح حبلى برنين غامض.. يخرج من السوق فتطارده السيارات الكالحة!!.. تحاول سيارتان محاصرته فينفلت منهما لتصطدما بعنف!!.. الخنزير النتن يرغد ويزبد.. الكلاب المسعورة تترجل.. الزعيم يتوغل فى أحد الأزقة الضيقة فلا يجد منفذًا.. اللعاب يسيل من بين نيوب الكلاب وتنقض عليه بوحشية.. الفزع يتغلغل فى أوصال الحمار فتخور قواه.. الضربات الموجعة تنهال على جسده فيحس بروحه تسلب منه فيئن مكتومًا.. كلب يتهجى ببطء الشعار الثلاثى المقدس المنقوش على جلد الحمار فيقهقه عاليًا.. يلكزه صاحبه محذرًا إياه من مغبة ذلك.. ترى ماذا وشم على جلدى؟.. أو لم يكن جديرًا أن أعب من ينبوع العلم.. ها أنا ذا أقرع سنى ندمًا بعد فوات الأوان، خراطيم المياه تصوب نحوه. الكتابة تكشر على نيوبها وتستمسك بأهداب الحياة.. الخنزير يضرب أخماسًا فى أسداس وينبح فى جهازه اللاسلكى.. يأمر الكلاب الجرباء أن تضرم النار فى الحمار.. شظايا صور تختلج بإيماءات ترسم على ذؤابات الشفق آخر أنفاس الحمار.. بركان الغضب يتفجر فى نفوس الناس ويهاجمون الكلاب الجرباء ويشيعون رفات الحمار فى جنازة مهيبة لم تشهد المدينة لها مثيلًا.