رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ضمير العالم يستيقظ.. وإسرائيل خائفة

اتسعت رقعة الحراك الطلابي الرافض للحرب في قطاع غزة في عدة جامعات أمريكية، تزامنًا مع تصريحات غاضبة قادمة من إسرائيل ضد هذا الحراك الطلابي، الذي وصفه مسئولون إسرائيليون بالـ(معادي للسامية) وطالبوا بـ(التصدي له)، وذكرت وسائل إعلام أمريكية أن أكثر من ألف شخص تم اعتقالهم، على خلفية تهم تتعلق بخرق القوانين الجامعية والمدنية في الولايات المتحدة.. هذا الحراك الرافض للحرب يثير جدلًا، خصوصًا مع محاولة الولايات المتحدة قمع (الأصوات التي تتحدث علنًا ضد الممارسات الإسرائيلية)، وتعهد الطلبة بمواصلة الاحتجاج، حتى توافق الجامعات على الكشف عن أي استثمارات مالية قد تدعم الحرب في غزة وسحبها، والعفو عن الطلاب الذين خضعوا لعقوبات بعد المشاركة في الاحتجاجات.. في الوقت الذي قال فيه رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، إنه (يتعين بذل المزيد) للتصدي للاحتجاجات التي انتشرت في الجامعات الأمريكية، واصفًا ما يحدث في جامعات أمريكية بـ(الأمر المروع)، واتهم من وصفهم بالـ(معادين للسامية) بالسيطرة على الجامعات البارزة.. وشدد على أن هذا (غير معقول.. ويتعين وقفه وإدانته على نحو لا لبس فيه)، ووصف رد فعل عدد من رؤساء الجامعات بالـ(مخزي).. فلماذا تخشى إسرائيل من حراك الجامعات الأمريكية؟.
وقبل أن نجيب على هذا السؤال، لا بد من القول بأن السيناتور الأمريكي، بيرني ساندرز، شن هجومًا على نتنياهو، مؤكدًا على ضرورة عدم الخلط بين (إدانة القتل) في غزة و(معاداة السامية).. وخاطب نتنياهو بأن (القول إن حكومتك قتلت أكثر من أربعة وثلاثين ألفًا من الفلسطينيين في ستة أشهر، ليس معاداة للسامية ولا مناصرة لحركة حماس).
نعود لإجابة السؤال.
تخشى إسرائيل من الحراك الطلابي، لأقصى الحدود، لأنها تعي جيدًا أن الحركة الاحتجاجية ضد الفصل العنصري في جنوب إفريقيا بدأت في الثمانينيات من القرن العشرين، وانتهت بسقوط (نظام الفصل العنصري) هناك.. وتعمل إسرائيل واللوبي الصهيوني، منذ عقدين، لمنع حركة مقاطعة إسرائيل، ولذا، فإن تل أبيب لعبت دورًا محوريًا (لإصدار قوانين، في أكثر من نصف الولايات الأمريكية، لمنع حركات المقاطعة، رغم أنها حق دستوري في أمريكا للتعبير السلمي).. والكثير من الطلاب الناشطين، هم من منظمات يهودية علمانية من أجل السلام، و(هذا التحدي اليهودي لما تقوم به إسرائيل في قطاع غزة، يضرب على وتر حساس داخل المجتمع الإسرائيلي، فيما يخص الصراع بين العلمانيين واليهود المتشددين والمتطرفين).
إسرائيل منزعجة من اتساع رقعة هذه المظاهرات، لأنها متخوفة من خسارة الدعم الأمريكي، إذا ازدادت وتيرة الاحتجاجات.. هذا الدعم الأمريكي لإسرائيل (هو الذي يجعلها قادرة على تحدي العالم، مثل الأمم المتحدة ومحكمة العدل الدولية والرأي العام العالمي، وهذا أمر تدركه إسرائيل جيدًا)، بل إنها تعتمد على النفوذ اليهودي في الإعلام الأمريكي، كي يبقى التركيز على إسرائيل ومعاناتها، بينما تكون تغطية معاناة الفلسطينيين في حدها الأدنى.. وهذا لأن الحراك الطلابي (يجعل المواطن الأمريكي يسأل أسئلة لا تريدها إسرائيل، وأن هناك حساسية عالية تجاه تكرار كلمات فلسطين أو الفلسطينيين في الإعلام الأمريكي)، بل إنه يثير شعورها (بالذعر والقلق)، لأن هذا الحراك (غير مسبوق)، منذ احتجاجات حرب فيتنام والاحتجاجات المناهضة للفصل العنصري في جنوب إفريقيا، خصوصًا أن هذه الاحتجاجات بدأت تمتد إلى خارج الحرم الجامعي في العديد من الجامعات، ناهيك عن انضمام أعضاء الهيئة التدريسية لهذه الاحتجاجات، ولم يعد الحراك مقتصرًا على طلبة الجامعة، بل امتد إلى فئات أخرى من المجتمع الأمريكي، وبدأ يشهد تضامنًا جماهيريًا، وراحت الاحتجاجات التي خرجت في الجامعات الواقعة في العاصمة الأمريكية، القريبة من البيت الأبيض تثير قلق الإدارة الأمريكية ـ بذات المقدار الذي يثير قلق إسرائيل ـ بأن هذا الحراك سيغير بوصلة السياسات الخارجية لواشنطن.
انتشار التظاهرات في جامعات العالم، قد يشير إلى أن الجيل الجديد يرفض سيطرة الصهيونية على دوائر صنع القرار، وبالتالي ستخسر إسرائيل دعم واستثمار الجامعات على الأقل.. ويردد العديد من الرؤساء والساسة والمفكرين الأمريكيين عبارات مثل (قادة التغيير وأمل المستقبل وصُناعه، والنبض الحي لأمريكا) في العديد من خطاباتهم وكتبهم ومحاضراتهم، في إشارة لأهمية شريحة الطلبة الجامعيين في دورة الحياة الأمريكية على الأصعدة كافة.. وأظهر تقرير، صادر عن المركز الأمريكي (بيو للأبحاث) أن 96% من المشرعين في الكونجرس الحالي، حاصلون على درجة جامعية على الأقل، وهم الهيئة التشريعية في النظام السياسي الأمريكي.
هؤلاء الطلبة (يملكون المستقبل، وهم أقوى فئة في المجتمع الأمريكي)، يجدون دعمًا من أساتذة الجامعات والمفكرين الذين يعدّونهم المثل الأعلى في هذه المرحلة العمرية.. فكيف سيفكر الطلبة مستقبلًا بإسرائيل، وهم يرون أساتذتهم يضربون ويُعتقلون بسبب تعبيرهم عن آرائهم؟.
يرى عضو الحزب الجمهوري الأمريكي، وأستاذ العلوم السياسية في جامعة ولاية موري في كنتاكي، الدكتور إحسان الخطيب، أن تأثير هذا الحراك على دوائر القرار (لن يكون قويًا في المدى القريب، وربما يكون هناك بعض التأثير في المدى المتوسط، ولكنه سيكون مؤكدًا في المستقبل البعيد).. هؤلاء الطلبة سيكونون في الدوائر الحكومية بعد تخرجهم، وسيكونون مدعومين من جيل ناشئ على الانفتاح على وسائل الإعلام غير التقليدية، مثل تطبيق تيك توك، وهو ما سيجعل مهمة إسرائيل صعبة للغاية لمواجهتهم بروايتها دون أخذ رواية الفلسطينيين في الاعتبار.. تأثير الطلبة على دوائر صنع القرار في المستقبل سيكون حتميًا، لأن هذا الحراك (خرج من رحم جامعات رابطة جامعات النخبة، التي تُخرّج الكثير من الساسة والمسئولين والمؤثرين، وتضم في كوادرها التدريسية العديد من المفكرين والأساتذة المتمكنين علميًا.. وما انتشار الحراك على مستوى جامعات القمة إلا مؤشر خطير جدًا، وقد (يخلق جيلًا جديدًا من المسئولين، يُعيد رسم وجه السياسة الأمريكية الحالية، بأخرى جديدة في المستقبل، كما سيكوّن هذا الحراك نخبة حاكمة لها آراء غير تقليدية عن إسرائيل).
الكاتبة الإسرائيلية، إفرات رايتن، أكدت في مقال لها بصحيفة هآرتس الإسرائيلية، أن بلدها سيواجه صعوبة في البقاء على قيد الحياة في ظل حكومة اليمين المتطرف، وما بدأ مخيمًا احتجاجيًا للطلاب المؤيدين للفلسطينيين في جامعة كولومبيا ـ حيث اعتقلت شرطة نيويورك العشرات منهم ـ امتد لاحقًا إلى الجامعات في جميع أنحاء الولايات المتحدة ودول أخرى.. صحيح ـ تقول رايتن ـ إن الولايات المتحدة أثبتت دعمها القوي لإسرائيل، عندما وافق الكونجرس على حزمة مساعدات بأغلبية كبيرة، لكن الصور القادمة من جامعات أمريكا، وملامح تغير التوجهات ـ وإن على المدى الطويل ـ في الإدارة الأمريكية ووسائل الإعلام والمجتمع ككل، تُعرِّض هذا الدعم للخطر.
تؤكد رايتن، أن إسرائيل خسرت الجامعات، وأن هذه التحولات حدثت في إطار صراع اجتماعي سياسي، استمر لسنوات عديدة في المجتمع الأمريكي، وهو صراع مُتجذر إلى حد كبير في المفاهيم والثقافة التقدمية التي اجتاحت الشباب، حتى صارت السردية الجديدة تربط بين الصهيونية والقمع والإمبريالية، لدرجة إنكار حق إسرائيل في الوجود، لأن مسلسل الفشل الإسرائيلي أنتج وضعًا صعبًا على إسرائيل، يتمثل في الدعوة إلى تدميرها، وأنه يمكن ملاحظة التراجع في دعم إسرائيل، في استطلاعات الرأي، التي أجريت منذ السابع من أكتوبر، بين الأمريكيين الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و24 سنة.. فقد عبر نصفهم عن دعمهم للفلسطينيين، ومعظمهم يعترضون على سياسة الرئيس جو بايدن تجاه إسرائيل، وهؤلاء هم نفس الشباب الذين يلوّحون الآن في جامعات بلدهم بلافتات (من النهر إلى البحر) ويدعون إلى الانتفاضة.. ويمكن رؤية هؤلاء الشباب في المستقبل، بمجلس الشيوخ والمحاكم والقيادة الاقتصادية وحتى البيت الأبيض.
وترى، أن من شأن تقويض الدعم الأمريكي، واحتمالات تباطؤ تدفق المساعدات، أن يشكل خطرًا على إسرائيل، حيث أظهرت الأشهر القليلة الماضية (مدى اعتمادنا على الدعم الدبلوماسي والاقتصادي والعسكري الأمريكي).. ومن الضروري هنا، تحرك الحكومة وجهاز الأمن على الفور لتصحيح الوضع، وتوجيه الموارد إلى توظيف أفضل الخبراء لتحسين العلاقات الخارجية لإسرائيل، خصوصًا مع الولايات المتحدة.. وأن على نتنياهو أن يعمل، على الفور، مع المشرعين الأمريكيين لتعزيز التشريعات المناسبة، وإقامة علاقات مع الجهات المانحة، وإطلاق خطة بالتعاون مع الإدارة الأمريكية، والقتال بشكل خلاَّق على وسائل التواصل الاجتماعي، وتعزيز المنظمات والمجتمعات اليهودية ـ الأمريكية وأصدقاء إسرائيل.. فإن العالم الغربي يريد إسرائيل قوية عسكريًا، لكن قوية ديمقراطيًا كذلك، ولا تعمل مع اليمينيين المتطرفين، مثل إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش.. إذا لم تتغير القيادة في تل أبيب، فقد تكون إدارة بايدن آخر إدارة ديمقراطية تدعم إسرائيل.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.