رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مقام الصدق

سوسن الشريف
سوسن الشريف

ربما سيرى البعض ما أفعله غير أخلاقى بالمرة، وآخرون ستعجبهم الفكرة، ويتمنون لو أمتلك الجرأة لفعلها، فى حين سيشعر صنف من الناس بالحقد لأننى سبقتهم إليها، وبين مستنكر ورافض، ومتمنٍّ ومعجب، أظن سيتفق الجميع على رأى واحد.. «كل ده يطلع منك؟!».

الأمر بدأ بالصدفة ذات يوم، وتكرر بعده بيومين، ووجدت إقبالًا لا بأس به ممن يقرأ لى، إذن فلمَ لا أقوم به مرة واثنتين وأربع، وأجمع ما نال الاستحسان لأحصل على مزيد من الاستحسان. ولأصل إلى عتبة الجوائز التى يتطلب بعضها كثيرًا من المخاطرة على الاستمرار، والتوغل أكثر وأكثر فى العمق، وقد شارفت على الغرق أكثر من مرة، ولم يثنِنى هذا عن طلب مزيد ومزيد.

سأقص عليك قصصى، تاركة لك الحكم، ولنرَ إلى أى جانب ستنحاز!!

فى المرة الأولى جلست بجوار سيدة على سلم المترو منتظرة صديقة لى، بعد حديث قصير اكتشفت أنها متسولة محترفة، روت لى قصتها بعدما اطمأنت أننى لن أقاسمها رزقها، فقصت علىّ تفاصيل «الشغلانة اللى مبقتش جايبة همها»، على حد تعبيرها.

قصصت بدورى قصتها بما جعل العيون تدمع والقلوب تتمزق، وجمعت عشرات علامات الاستحسان. بعد يومين فى محطة الباص، روت لى سيدة رقيقة الحال حكايتها، فرويتها بدورى بكلمات مرهفة، مثيرة للألم والشفقة. صار لدىّ شغف بالجلوس فى الطرقات ومحطات الباص والمترو، إلى أن طال الملل قصصى، لا بد إذن من قليل من الإثارة!!

أوهمت السيدة التى تعمل لدىّ أنها سرقت، وعليها ترك ابنتها الرضيعة معى إلى أن تحضر لى النقود وإلا سأبلغ الشرطة، تركتها وقلبها يتمزق لدرجة أكاد أسمعه يئن. كان من الضرورى تجربة شعور الأم، ولو لبضع ساعات لم تتجاوز يومًا واحدًا، وجدت الأمومة مُرهقة رغم كل ما تثيره من مشاعر دافئة، يصعب وصفها، فعندما يستكين الطفل بين ذراعيك، مريحًا رأسه باطمئنان على كتفك، فى حضنك، يمنحك دفئًا وحنانًا أكثر مما يأخذ. وككل الأطفال، لم تشعر هذه الرضيعة بالغربة بين يدىّ، وربما لو أخذتها إلى الأبد ستصدق أننى أمها، لكن يتخلل ذلك غياب النوم والراحة والقلق الدائم لو مسحت على رأسها الصغير، ووجدته دافئًا قليلًا.

أرأيت كم هو شعور ممتع ومقلق ومتعب فى آنٍ واحد!!

أخذت السيدة ابنتها فى اليوم التالى بعدما أرهقتنى بتكرار اتصالاتها، أخبرتها بأننى عثرت على الأشياء المفقودة، ولا داعى إلى إبلاغ الشرطة، تحدثت إليها فى لطف بالغ، ومع ذلك ظلت عيناها محتفظتين بنظرات هلع، قائلة فى رعب إنها لن تأتى إلىّ مرة أخرى لسفرها إلى بلدها.

لا أعلم لماذا ابتعدت بعد كل محاولاتى لطمأنتها، بل إننى أعطيتها نقودًا ضعف أجرتها!!

رأتها جارتى تهرول على السلم، فسألتنى عن السبب، فى الوقت نفسه ظهر زوجها الذى اعتاد متابعة كل ما يخصنى ومضايقتى. فتارة يغلق محبس المياه الواصل إلى شقتى، وتارة يتسلم الخطابات بدلًا عنى بالاتفاق مع رجل البريد الذى يبيع نفسه مقابل خمسة جنيهات، لأجد خطاباتى مفتوحة ومبعثرة على درجات السلم. 

أحب جارتى هذه وأمقت زوجها، بل لاحظت تغييرًا فى معاملتها معى منذ بدء مضايقاته، وكأننى.. كأننى.. وكأننى من يضايقه.

ابتسمت لها فى دفء، فى حين أروى قصة الخادمة واضطرارها السفر إلى بلدها كما تقول، إلا أن الحقيقة يا جارتى العزيزة أنها تخاف أحد الرجال الساكنين هنا فى العمارة. يتربص لها وقتما تحضر إلىّ ويضايقها، بل إننى بنفسى رأيته ذات يوم وقد ألصق جسده بها، فصارت محاصرة بينه وبين الجدار، وقد امتدت يده ليخلع عنها غطاء شعرها، لولا أن رآنى، فتظاهر بالشجار معها. شحب وجه جارتى، وراحت تلح علىّ لمعرفة هذا الجار، فى حين أصررت على الرفض، اغرورقت عيناها بالدموع وهى تستعطف مشاعر المرأة بداخلى، مدعية خوفها من تعرضه لها، ازددت عنادًا ورفضًا، فتركتنى غاضبة.

لا أعلم لماذا تغضب منى ولا تغضب من ذلك الجار؟؟!!

القصص صارت فى حاجة إلى شىء من النعومة والرومانسية، كل الأجواء التى هيأتها لنفسى لاستدعاء ولو خاطرة ناعمة لم تفلح، إلى أن ومض الهاتف برسالة من ذلك الرجل من الماضى السحيق. ظهور اسمه يصيبنى ببعض الرجفة، وقلبى يخفق بشدة، رسالته رقيقة ممتلئة بالاعتذارات والأعذار كعادته فى العودة بعد كل غياب.

رددت عليه، أجابنى باتصال هاتفى وصوته ممتلئ بالفرحة لردى غير الغاضب، خفقات قلبى لم تعد تعمل، صوته لم يعد يثير بداخلى أى مشاعر، أُنهى مكالماته بسرعة أتعجب لها!!

ولكننى فى حاجة إلى قصة جديدة..

كان وقتًا مملًا إلا أنه أتى لى ولكم بقصتين أذابتا القلوب والمشاعر، أشكرك يا رجل الماضى السحيق.

أرأيت كم كان الأمر ممتعًا!!

كيف يتماهى الخيط الرقيق بين الأبيض والأسود!!

الجميع يصفنى بأننى وصلت إلى مقام الصدق الأعلى، وحالة الشفافية تزيد إلى حد أنهم يصدقون كل ما أرويه.

ذات يوم قتلت كل من حولى لأجرِّب شعور الوحدة، ثم أمرت الزمن بالمرور سريعًا، ليتقدم بى العمر، بل إننى قصدت عرَّافًا ليجعلنى أراقب الآخرين فى هدوء وروية، فصرت شفافة.

أتُصدِّق أننى شفَّافة يا سيدى.. شفافة لدرجة لا يرانى أو يسمعنى أحد، ومن يؤلمنى يسير فى طريقه مبتسمًا بلا اكتراث، وإن علا صوت ألمى.. يُؤنِّبنى لكونى أتألم، وهذه خطيئة تستحق العقاب.

شفَّافة إلى حد جعل العصافير والفراشات تحط على كتفى، ويجاورنى اليمام كى أخلد إلى النوم على أجنحته، والملائكة ترقص حولى وتغنى بلا حرج.

الفنانة المصرية - مارجريت نخلة (١٩٠٨-١٩٧٧) امرأة مع كوب بيرة