رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

"مقامات الغضب".. حدوتة وطن ومواطن

«ليس ذنبى أن وعيى تشكل من الغضب الممزوج بوجع وألم أرصده من خلف زجاج سيارتنا الفيميه وأنا فى طريقى يوميًا من البيت للمدرسة.. فى الصباح تكون الحياة هادئة والمرضى لم يصلوا بعد لمستشفى قصر العينى القديم، فى طريق العودة بعد الظهيرة يكون المرضى الذين لم يحصلوا على الدواء المناسب قد أجهدهم الوقوف فتنحنى ظهورهم أكثر ويظهر على وجوه ذويهم إحباط غاضب، وعلى وجوههم غضب متألم يمرون من أمامنا بلا مبالاة، بتجاهل لكل الإشارات والكلاكسات، يرمون بأجسادهم على كبوت السيارة، يصرخ وليد السائق إنت يا بنى ابعد، إنت يابا وسع طريق.
الطاقة لا تفنى ولا تُستحدث من العدم.. لو أن هناك اختراعًا يتمكن من تحويل كل البشر إلى مفاعلات للطاقة، السعرات المحترقة من الأجساد السمينة، الأجساد المترهلة، كل الشحوم، تتحول إلى طاقة، الكلام، الصراخ، الاحتجاجات تتحول لطاقة».
وكأننى أرى المعالجة الروائية لـ«مقامات الغضب» قد تم تقديم أساسياتها والفكرة الإنسانية والقيمية والإبداعية فى تلك الفقرة التى أتت بها الروائية والإعلامية والكاتبة الصحفية الأكاديمية المبدعة صفاء النجار فى استهلال العمل، بما يشير أيضًا لنهج التناول الأدبى للسياق العام للحدوتة والسرد الذى يضع القارئ أمام حالة الغضب ومعايشته فى كل حالاته وانعكاساته للخاصة والعامة وتصاعداته الدرامية.
أرى أن اختيار العنوان أيضًا جاء فى تركيبته ومضمونه موفقًا، فالمقامة «مفرد مقامات»   فن جاء مرافقًا ومتأثرًا بانتشار الخطابة وكتابة الرسائل وتدوين الأمثال ونقل الأخبار، وقد شكَّلت مقامات الهمذانى علامة فارقة فى تاريخ النثر العربي، وكانت مصدر إلهام للقصص وحكايات الرحَّالة، ذلك أن بديع الزمان نأى بالمقامة عن الحذلقة اللغوية، وباتت المقامة هى المجلس الذى يقوم فيه الخطيب بالحض على فعل الخير، وفى إطارها اللغوى تمثَّلت فى حديث يُلقى على جماعة من الناس، إما بغرض النصح وإما بغرض الثقافة العامة أو التسوّل.. وكل ما يميزها أنها حديث ذو نزعة وعظية أو ثقافية نقدية يُلقى على جماعة من الناس.
وإذا كانت مقامات الدكتورة صفاء النجار تحمل مشاعر الغضب «مقامات الغضب» لملامستها سخونة أحداث عشناها فى حاضر قريب زاخر بالمتغيرات المجتمعية والقيمية والإنسانية المباغتة فى تحولاتها لدى الأجيال الأكبر سنًا، فتتصاعد مشاعر الرفض والغضب لمقابلة غضب أجيال شباب 2011 على سبيل المثال.
فى واحدة من المقامات الاستعراضية البديعة للميدان الينايرى فى 2011 تذكر الرواية         «حققنا الثورة، لكن أفكارنا لم تتحقق، وظهر واضحًا أن الإخوان والجماعات الإسلامية هى المسيطرة على الأرض، انزوينا فى ركن خيمة قريبة من مدخل محمد محمود، الشموع ليست ساطعة كالكشافات، والجيتار أضعف من الدفوف والطبلة، تلعلع المكبرات بالتكبيرات والأدعية الدينية والخطب، شعرت بالغربة فى الميدان، كانوا يحتفلون بنجاح الثورة، ولكننا كنا غارقين فى الإحباط، وتحيط بنا هالات النور التى انطفأت وعشرات الزهور التى تساقطت وقطفت فى غير أوانها..».
نتوقف باستمتاع عند التعريفات البديعة فى مقاصدها والاستخدام اللغوى للروائية والقراءة الخاصة جدًا للتفاعلات الدنيوية عبر مونولوجات وأسئلة وإجابات.. تسأل: ما الذى يقضى على الغضب؟ يفرغه من طاقته، يحوله لشىء أبله بلا معنى؟ لا شىء يعادى الغضب كالملل والتكرار، الغضب دائمًا طازج، فى كل مرة تفور الدماء، تتسع الشرايين وتعمل مضخات القلب بأقصى قوتها وتدفعك الهرمونات لحافة الهاوية، ويتحول العالم لحفرة، هوة، صراخ من السقوط المفاجئ، الذى لم يحدث بعد، أو ربما يحدث فى خيالك، لعبة المحاكاة.
قد تجعل «مقامات الغضب» القارئ لبعض التفاصيل يرى أن الغضب نتيجة محتملة للخوف، سواء كان خوفًا من المجهول، أو خوفًا من الفشل، أو من الهجر، أو من الشعور بضآلة الذات، وضرورة البحث عن سبب الغضب، قبل أن نسعى لجنى فوائده.
وفى ملمح بديع لأدب نسوى مميز وخاص «أنا واحدة من الكائنات التى تتشظى طوال يومها، وفى الصباح التالى تعيد تركيب أجزائها.. تبدو النساء الأكثر تدينًا والأكثر تشددًا فى الدين.. النساء يسهرن على رعاية الإله كما تسهر الأمهات على رعاية أطفالهن، أزواجهن.. لو لم يكن هناك إله الأمهات كنا سيخترعن إلهًا، الرجال يريدون إلهًا يستمدون منه نفوذًا وبسطًا وسيطرة على الآخرين، النساء يُردن إلهًا كى يستمر دورهن فى الخلق والرعاية والحماية..».
ولم تبتعد «مقامات الغضب» عن واقع الغضب الوطنى وانعكاساته على المواطن والوطن، والتى قد تصلح لخاتمة كانت البداية لوطن قرر مواطنوه أن يعيش المستقبل.. جاء فى رواية   «مقامات الغضب» أن كل الثورات والاحتجاجات تعود بنا للدائرة ذاتها، ويصبح أكبر إنجازات ثورة يناير أنها أتت بالإخوان إلى الحكم، وإنجازها الأعظم أنها جعلت بعض التكاتك تجرؤ على دخول المنيل.. أيها الضابط.. نحن من صنع آلهة من الأحلام والأمنيات.. نفخنا فيها من أرواحنا، من براءتنا، من الشغف بالحياة، من الرغبة فى التغيير.