رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

شيطان الحسن الصباح.. أسرار الشر فى مسلسل «الحشاشين»

يقول نيتشه: «فى الواقع إن مشكلة أصل الشر كانت تطاردنى، منذ كنت صبيًا فى الثالثة عشرة، وهو العمر الذى ينقسم فيه اهتمام الإنسان بين الألعاب الصبيانية والإله». وفى سياق التصوف، امتدح الحلاج فى كتابه «الطواسين» إبليس، واعتبره العاشق الأول، الأقرب إلى الله، الذى رفض السجود لغيره، فابتلاه الله ليختبر محبته.

معرفة الشر هى الباب الملكى، لإدراك قيمة الخير، فلولا ألاعيب الشيطان ما أدركنا حقيقة الرحمة والمغفرة والابتلاء، هكذا يتعامل عبدالرحيم كمال مع الشر بوصفه بابًا من أبواب المعرفة، يقدمه لنا بوجهه الحقيقى، ذلك الوجه الجميل، الذى يجذبنا ويبهرنا، فنصبح له تابعين، دون أن ندرك أننا فى اختبار حقيقى، ولن نتبين فيه الخيط الأبيض من الخيط الأسود إلا بشق الأنفس، هذا إن تمكنا من اجتياز الاختبار من الأساس.

عبدالرحيم كمال الذى تعامل مع الشيطان بوصفه ذلك الطاووس الزاهى صاحب الحضور الطاغى كما فى مسلسل « ونوس»، أو «خلدون» فى «جزيرة غمام»، وأفهمنا دوافعه، وأدخلنا فى عالمه المتداخل الخطير، جرد الشيطان من صورته الأسطورية القديمة، ذات الملامح القبيحة، والشر المحض بشكله الكلاسيكى، وحوّله إلى صورة إنسانية واقعية وملموسة، نحدثه ونحاوره، ونقع فى شباكه. وهنا مكمن الخطر، فحينما صالحنا عبدالرحيم كمال على الشيطان، أنذرنا من حيث لا ندرى أن السقوط فى فخ الشيطان أمر طبيعى أمام جماله وهيبته، فالشيطان ليس بهذا الكائن القبيح، الظاهر، بل هو ذلك الجميل الذى يخدعنا فلا نرى منه إلا أطماع أنفسنا.

فكرة الشر تشغل دائمًا كتابات عبدالرحيم كمال، وتشكل المكون الأصيل فى عالمه الذى ينسجة بعناية، ليضع الشر فى مكانة مميزه تليق بأهمية وجوده فى العالم، فمعرفة الخير سهلة، الله موجود فى كل شىء حولنا، الوصول إليه لا يحتاج منا إلى مجهود، فيكفى أن ننظر فى أنفسنا لندرك أن الله حاضر بجمال خلقه فى كل تفاصيل الحياة. ولكن من الصعب أو المستحيل أن نعرف أين مكمن الشر، كيف يتجسد الشيطان، إنه جميل كما أحلامنا، وخطير كما هوانا.

تلك الفكرة نجدها بوضوح فى مسلسل «الحشاشين»، الذى وظّف فيه عبدالرحيم كمال مخزونًا ضخمًا من التراث الأدبى والشعبى والدينى، ليكون عالمًا مثل البرزخ يسبح بين الحقيقة التاريخية والأسطورة الشعبية، فتاريخ الحشاشين مُلغز ومعقد إلى حد كبير، بحيث لا نستطيع فيه أن نفصل بين التاريخى والأسطورى بشكل كامل، خاصة ونحن أمام فرقة مذهبية متطرفة اختارت خدمة الظلام، وكونت البذرة الأولى لكل جماعات الإرهاب الدينى فى التاريخ منذ القرن ١١ الميلادى وإلى الآن، مرحلة تاريخية متعددة الأهواء والطرق، فالإسماعيلية الفاطميون فى مصر، والسلاجقة الأتراك السنيون المتعصبون فى إيران، والتشيع بفرقه المختلفة، كل هذا التداخل التاريخى، جعل الوصول إلى الحقيقة أمرًا فى غاية الصعوبة، فكل فرقة تدعى أنها الحق المطلق، والشيطان يكمن فى تفاصيل كل المشاهد الدينية والسياسية والتاريخية، ومن رحم فكرة الشيطان يخرج علينا الحسن الصباح بفرقة النزارية، التى تحولت تدريجيًا إلى أسطورة صنعت تاريخ.

عبدالرحيم كمال قدم الشر بأشكال مختلفة فى الحشاشين، بداية من شخص الحسن الصباح، ولا أقصد تاريخية الحسن، ولكن الحسن كما صوره الحشاشين، ذلك الزاهى المغرور الواثق، المؤمن بذاته فقط لا شريك لها، الهادئ، المقنع، صاحب الكرامات، المتبحر فى علوم الحرف، والسحر، والقياس والمنطق، شخصية آسرة بكل ما تحتويه الكلمة من معنى، كامل الحسن والجمال، شيطان بهى الحضور، تمكن من السيطرة على آلاف الأتباع، تحت وهم العدل والخير والحق، واستغلال الواقع بكل ما فيه من مظالم، لتكوين فرقة ادعى أنها الناجية، ليدخل بهم عالمًا من السحر والفردوس المفقود، ويسلب أرواحهم برضى كامل.

فالحسن الصباح فى المسلسل ليس شريرًا كلاسيكيًا عادى الظهور، ملموس القبح، لكنه يجسد كل ما هو جميل فى الحياة، وتتوق له النفس البشرية، وهذا سر سحر الشخصية فى الحشاشين، فكتابة عبدالرحيم كمال، وبالإضافة إلى أداء كريم عبدالعزيز، أوقعنا دون أن ندرى فى بداية الأمر فى أسر حب الصباح، والإعجاب به، فكنا كما أتباعه، نؤمن بما يقول، وننتظر انتصاراته المتلاحقة، ونصدق كراماته المفتعلة، لنكتشف أننا تورطنا من حيث لا ندرى فى أكثر المشاعر غرابة وخطورة، فالحسن الصباح غاية فى الشر، رغم كل بهائه، وما يظهره من تقوى وإيمان. فهو قادر على إيذاء الجميع، حتى أقرب المقربين إليه، أعوانًا أو أبناء أو حتى زوجته التى آمنت به قبل الإيمان بدعوته، أفقنا على أننا أحببنا شيطانًا.

فمنذ اللحظة التى خرج فيها الحسن من بيته وهو طفل يدرس سحر الحروف والأرقام، وفى لحظة اكتمال القمر يسقط فى بئر مظلمة، لا يخرجه منها سوى عهد أبرمه مع الشيطان، ليمتلك قوة الظلام بعد ذلك، تلك القوة التى سيطر بها على كل نقاط الضعف الإنسانى لكل من حوله، بداية من استغلاله إيمان زوجته به، وصولًا لتصيده إحساس النقص عند «بزرگ امید»، حارسه فى السجن الذى تحوّل إلى تابعه المخلص، مرورًا بفكرة الرغبة فى القيادة التى سيطرت على زيد بن سيحون. فعبدالرحيم كمال يكشف لنا كيف يسيطر الشر على العالم، مستفيدًا من كل التراث الأسطورى الذى تعامل مع الشيطان بوصفه كيانًا مقدسًا، مثل المعتقدات الفارسية القديمة، التى تعتبر الظلام كيانًا منفصلًا له حضور قوى يستحق العبادة والتبعية، تلك الفكرة التى أثرت فى الحسن الصباح تاريخيًا، وانعكست على مسلسل الحشاشين بطبيعة الحال.

فكرة الشر لا تقف عند حدود الحسن الصباح فى مسلسل «الحشاشين»، بل تنسحب بمهارة فائفة على بقية الشخضيات، خاصة شخصية عمر الخيام، الذى يظهر شره فى سلبية مواقفه وهروبه الدائم من كل دوائر الصراع، فالرافد الصوفى فى فكر عبدالرحيم كمال انعكس بوضوح على كتاباته، فقد قدم شخصية الخيام، بوصفه ذلك المتوحد مع ذاته، غير القادر على تحمل تبعات مرحلته التاريخية، قليل الفعل، كثير التباكى على كل ما يحدث حوله دون أن يُقدم حلًا حقيقيًا. فالخيام ذلك المتصوف من منظور وجودى، تحكمه فكرة العجز بكل ما فيها من مبررات تبدو للوهلة الأولى حقيقة وجميلة، ولكن فى عمقها يكمن شر عظيم.

حتى نظام الملك، الذى كان ضحية إيمانه الكامل، بأن التبعية للسلطة، والحفاظ على هيبة السلطان كهدف منفرد، هما الحل الأمثل لإدارة العالم من حوله، فتحوّل إلى عبد للسلطة، فإذا كان الحسن الصباح ممثلًا لفكرة التمرد الشيطانى، فإن نظام الملك يمثل وهم السلطة الكاملة، التى لن يتمكن أحد من هدمها، حتى وإن كان الحسن الصباح، فوهم السلطة المطلقة بكل ما فيها من جمال ظاهرى، لكن فى عمقها شرًا عظيمًا. فالأصدقاء الثلاثة شكلوا فى المسلسل مثلثًا لأشكال الشر المختلفة، بكل ما تحمله من خدع وتورية.

فوجهة نظر عبدالرحيم كمال فى تناوله الشر لها مصادر مختلفة ومتداخلة فى كتاباته، فأحيانًا نجد أنفسنا أمام المصدر الأسطورى الذى يُقدس الشر بوصفه فعلًا واختيارًا له استقلاله وتفرده، وأحيانًا المصدر الدينى الذى يرتكز على أن هوى النفس أشد خطورة من كل وسوسة شيطانية، أو المصادر الأدبية من مختلف الثقافات، التى عكس تطور فكرة الشيطان فى الوجدان البشرى. ولكن السر الخفى فى أدبيات عبدالرحيم كمال تقديمه الشيطان بوصفه انعكاسًا جميلًا لضعفنا وعبادتنا الهوى.